لما تحمل هموم الدنيا

 يسير الفتى في الطرقات كأنما يحمل الدنيا على كتفيه، تتقاذفه الأفكار بين مد وجزر، فمرة يندفع بقوة الألم، وأخرى ينكفئ في بحر الصمت. يتساءل في نفسه؛ أأصرخ علّي أُخرج هذا الثقل الجاثم على صدري؟ أم أبكي لعلي أغسل ألمي بدموع تروي عطش روحي المتعبة؟


لكن، أيبكي وهو لا يدري ما الذي يبكيه حقاً؟ أم يسير متجاهلاً كل ما يحمله في داخله؟ يشعر بأنه تائه بلا هدف، مُجرداً من كل يقين، فلا نور يهدى خطاه ولا طريق يبدو له مستقيماً. يدرك في أعماقه أن هذه المتاهة هي رحلته، وأن عليه مواصلة السير حتى يجد فيها معنىً يخفف عنه.


أحياناً، يظن أنه سيبقى هكذا إلى الأبد، مسافراً بلا محطة. لكن ربما، في أعمق نقطة من هذا التيه، يكتشف جزءاً منه كان ضائعاً طوال هذا الوقت، كأنه في طريقه لاستعادة نفسه، نقطة تضيء مساره بتساؤلات جديدة تعيده إلى ذاته.

مع كل خطوة يخطوها، يزداد إحساسه بالثقل والضياع، كأن الطريق ذاته يتآمر عليه، يتحول إلى متاهة لا نهاية لها. يحاول التوقف، يبحث في داخله عن سبب لهذا الحزن الذي يملأه، لكن كلما اقترب من جوهر شعوره، يفرّ منه كسراب. لقد أتعبه هذا التساؤل المستمر، يفتح باباً في داخله ليجد خلفه ألف باب مغلق.


يختلط عليه الأمر بين ما يشعر به وما يتخيله، وتغمره حيرة تكاد تفقده صوابه. هل هو حزين على شيء مضى؟ أم أنه مجرد قلق من المستقبل المجهول؟ هل فقد شيئاً عزيزاً على نفسه دون أن يدركه؟ أم أن حياته برمتها أصبحت ثقيلة عليه، مسكونة بأشباح أحلام لم تتحقق؟ يشبه نفسه بسفينة ضائعة في محيط لا نهاية له، والريح تدفعه إلى حيث لا يريد.


يأخذ نفساً عميقاً، يحاول أن يجد بداخله إجابة، لكنه سرعان ما يدرك أنه ليس أمامه سوى السير، فالوقوف يعني الغرق في ذاته. وكأن الطريق نفسه يعلّمه درساً قاسياً، يعلم قلبه أن الألم جزء من الحياة، وأن هذا الضياع قد يكون بوابته لاكتشاف جزءٍ جديد من نفسه.


وفي لحظة سكون نادرة، يخطر له سؤال لم يفكر فيه من قبل: “ماذا لو كان هذا الحزن هو الدليل؟ ماذا لو كانت هذه المتاهة جزءاً من رحلتي لأصل إلى نفسي؟” يبدأ في إدراك أنه ربما لا يحتاج إلى الإجابات كلها الآن، ربما يكفي أن يقبل هذا الشعور، أن يحتضنه دون هروب أو مقاومة.


شيئاً فشيئاً، يُطل عليه شعور خفي بالراحة، ليس لأنه وجد الحل، بل لأنه بدأ يدرك أن هذا التيه هو جزء من رحلته، وأن عليه أن يسير دون خوف، عله يجد في النهاية ما يضيء له الطريق، وما يفتح له أبواباً داخلية كان يظنها مغلقة إلى الأبد.

مع استمرار رحلته وسط هذه المتاهة الداخلية، يشعر بلمحة من السكينة تتسلل إلى روحه. لم يعد يسير بنفس الحيرة المُنهكة، بل بدأ يشعر بقبول غير متوقع، كأن هذا الطريق الذي يبدو بلا نهاية يحمل في طياته حكمة لا تظهر إلا لمن يتأمل بصبر.


يمر بجوار ذكريات قديمة، بعضها سعيد، والآخر مؤلم، لكنها الآن لا تعود لتحاربه كما اعتادت. بل يشعر أنها أشبه برسائل من الماضي، تشير له على لحظات صنعته، على أجزاء منه كان قد نسيها أو حاول الهروب منها. يجد نفسه مبتسماً بصمت؛ فكل ذكرى، مهما كانت قاسية، هي جزء من القصة التي أوصلته إلى هنا.


يبدأ بالتفكير في الحياة بعينٍ أخرى، يراها كرحلة ممتدة، حيث الألم جزء من النسيج الذي يشكل هذا الوجود. لم تعد خطاه ثقيلة كما كانت، بل صار يشعر كأنه في حوار مستمر مع الطريق نفسه، كأن كل خطوة تنبض بإجابات خفية. يتوقف لبرهة، ينظر إلى السماء، يرى فيها امتداداً لما بداخله، فضاء واسع ومفتوح، يحتضن همومه وأحلامه على حد سواء.


وفي لحظة صفاء، يدرك أن الطريق قد لا يقوده إلى مكان محدد، بل إلى ذاته، إلى معرفة أكثر عمقاً. لم يعد يبحث عن نهاية تريحه، بل صار يتوق إلى مواصلة الرحلة، لأنه بات يؤمن بأن المغزى ليس في الوصول، بل في التعايش مع هذا المسير، في تقبّل كل لحظة بما فيها من تحدٍ وجمال.


يلتفت إلى داخله بابتسامة جديدة، وكأنه يعاهد نفسه على الاستمرار، ليس بلا هدف، ولكن بشغف الاكتشاف، بروح مستعدة لتقبّل كل ما يخبئه الطريق.

في تلك اللحظة، كأنه يغوص في أعماق نفسه، يشعر أن كل ما يراه حوله من متاهة وضياع ليس إلا انعكاساً لصراعات داخلية خفية، محاولاتٍ متكررة لاحتواء مشاعر مضطربة، وقصص غير مكتملة، تركها تتراكم دون أن يلتفت إليها.


يدرك الآن أن التيه ليس خارجياً؛ إنه ينشأ من أعماقه، من أجزاء من ذاته لم يواجهها يوماً بصدق. إنه يحمل جروحاً لم تلتئم، وأحلاماً خذلها، وخوفاً لم يعترف به. لقد بنى جدراناً حول قلبه، معتقداً أنها ستحميه، لكنه لم يدرك أنها كانت سجناً يسير فيه بلا إدراك.


يتنفس بعمق، يغلق عينيه، ويتواصل مع مشاعره بصدق. يسأل نفسه أسئلة لم يجرؤ على طرحها من قبل: “متى توقفت عن رؤية الجمال؟ متى تخليت عن حلمي الأول؟ أين ضعت عن نفسي؟” وكأن شيئاً بداخله يتحرر، يبدأ بالبكاء، ليس لأن البكاء يريحه، بل لأن الدموع تفتح له باباً للشفاء، تمنحه إذناً ليكون ضعيفاً وصادقاً في الوقت ذاته.


وفي هذا العمق السحيق، يجد نفسه وجهاً لوجه مع طفله الداخلي، ذاك الطفل الذي كان يوماً ممتلئاً بالفضول والأمل، لكنه تُرك وحده، خائفاً وضائعاً. يحاول أن يمدّ يده، يطمئن هذا الطفل، يعده بأنه لن يتركه مرة أخرى، بأنه سيحميه من جديد، وسيستمع إليه. يرى في عينيه الحزن، لكنه يرى أيضاً بريقاً من الأمل، شعلة صغيرة توحي بأن الشفاء ممكن، وأن الحب يمكن أن يلتئم حول جروح الروح.


وفي لحظة سامية، يدرك أن هذا اللقاء مع طفله الداخلي هو ما كان يبحث عنه طوال الطريق. لم تكن المتاهة سوى دعوة للعودة إلى جوهره، لاستعادة أمانه الداخلي، للبدء من جديد بروح جديدة، مليئة بتصالح مع ماضيه ورؤية جديدة لمستقبله. لم يعد خائفاً من التائه، بل صار يحتضنه كجزء من ذاته، كأنه وجد السلام أخيراً في حضن نفسه.

يغمض عينيه للحظة، يستشعر طمأنينة غريبة تسري في روحه. كأن كل أجزاءه التي كانت متناثرة ومتفرقة، قد عادت إليه وتجمعت لتشكل صورة واضحة عن نفسه، صورة يرى فيها القوة والضعف، الخوف والشجاعة، الأمل والخيبة، وكل ما مر به على مدى حياته. يدرك أن هذه الأجزاء ليست عيوباً أو نواقص، بل هي مكونات وجوده؛ هي التي صاغت هويته ومنحته عمقاً ومرونةً لم يكن ليعرفها لولا هذه الرحلة الطويلة.


يتذكر كيف كان يتجنب ألمه، يهرب من المواجهة، وكيف كان يغلق الأبواب على جروحه معتقداً أن النسيان كفيل بشفائها. لكنه الآن يعرف أن كل جرح كان يناديه، يطلب منه الرعاية والانتباه. يدرك أنه بفتح تلك الأبواب القديمة، بمد يد العون لنفسه، يجد في هذا الألم فرصة للتغيير والنمو، كأن كل خيبة وألم كانا دروساً، خطوات دفعته نحو طريق أعمق للحب والتصالح.


وفي قلب هذا العمق، يرى معنىً جديداً للحياة. لم تعد الحياة مجرد سعي لتحقيق الأهداف والوصول إلى نهايات مثالية، بل صارت رحلةً لاكتشاف الذات، رحلة تنبض بالمعاني الخفية التي لا تُكتشف إلا لمن يسير بوعي، لمن يتوقف ليسأل، ويستمع، ويتأمل. أصبح يرى في كل لحظة فرصة للتواصل مع ذاته، لفهم معاني أعمق خلف تجاربه، ولكي يحتضن كل ما كان ينكره في نفسه.


ومع هذا الوعي الجديد، يبدأ بالتحرر. لم يعد يبحث عن الأمان خارج نفسه، بل بات يجده في قلبه، في صوته الداخلي الذي يرعاه ويوجهه بلطف. يشعر بأن رحلته لم تنتهِ بعد، لكنها بدأت من جديد، بروح متصالحة وملهمة، روح تعانق الحياة كما هي، بكل تناقضاتها وتحدياتها، بفرحها وألمها، وكأنها قطعة من الموسيقى الهادئة في قلب عاصفة الحياة.


يبدأ بالسير بخطى واثقة، يتطلع للأفق بقلبٍ مفتوح. لم يعد تائهاً، بل صار عارفاً بأن كل خطوة يقودها معنى، وكل لحظة تحمل رسالة، وكل شعور، مهما كان مؤلماً، هو جسر يقوده نحو مكان أعمق، نحو نور ينبع من ذاته.

تعليقات

مرآة الأسرار: رحلة نحو النور

مرآة الأسرار: رحلة نحو النور

لا تخافي يا بنتي