مرآة الأسرار: رحلة نحو النور

 مرآة الأسرار: رحلة نحو النور

طرقت باب القبو مرة أخرى، شعرت بأنفاسي تتلاحق في الصمت العميق الذي يلف المكان. كان الهواء بارداً، ممزوجاً برائحة قديمة من الغبار والرطوبة. فجأة، سمعت صوت خشخشة خافتة من الداخل، وكأن شيئاً ما يتحرك. تساءلت إن كان هناك أحد، أو ربما شيء آخر ينتظرني خلف هذا الباب.

قلبت الأفكار في رأسي، هل أفتح الباب أم أعود أدراجي؟ لكن فضولي كان أقوى من خوفي. مددت يدي نحو المقبض البارد، وفتحته ببطء، فأصدر الباب صريراً حاداً اخترق الصمت.

ما الذي يمكن أن يكون مختبئاً في أعماق هذا القبو؟

فتحت الباب بالكامل، وكشفت الظلمة التي تلف القبو بظلالها الغامضة. خطوت إلى الداخل بحذر، والنور الخافت من الخارج بالكاد كان كافياً لرؤية ما أمامي. الأرضية كانت خشنة تحت قدمي، وأصوات الخطوات تتردد في كل زاوية.

فجأة، شعرت بشيء غير مرئي يتحرك في الهواء من حولي. توقفت للحظة، أنصت بكل حواسي، ثم سمعت صوتاً منخفضاً، أشبه بهمسة بعيدة، ولكنه واضح: “ماذا تريد؟”

تجمدت في مكاني. هل كان هذا الصوت حقيقياً أم مجرد تهيؤات؟ رددت بصوت مرتجف: “من هناك؟” لكن الصمت عاد ليخيم من جديد، وكأن القبو ابتلع كل شيء.

أمعنت النظر في الظلام، ولاح لي في الزاوية البعيدة من القبو ضوء خافت ينبعث من تحت باب صغير. شعرت أن هذا الباب يخفي خلفه شيئاً مهماً.

تقدمت نحو الباب الصغير، وكلما اقتربت منه، زاد الضوء الخافت توهجًا طفيفًا، كأنه يهمس لي بأسراره. كان الباب مصنوعًا من خشب قديم، مغطى بالغبار والعناكب، ومع ذلك، شعرت بجاذبية غريبة تجذبني نحوه. وضعت يدي على المقبض، ولكنه كان دافئًا على غير المتوقع.

عندما أدرته، انفتح الباب بهدوء شديد، كأن من خلفه كان ينتظر قدومي. أطللت برأسي لأرى ما خلفه، فوجدت غرفة صغيرة، جدرانها مغطاة بأرفف مليئة بكتب قديمة ومتنوعة. في منتصف الغرفة، كان هناك طاولة خشبية قديمة، وعلى سطحها شمعة صغيرة تكاد تنطفئ.

لكن الشيء الذي شد انتباهي حقًا كان الكتاب الكبير المفتوح في منتصف الطاولة. صفحاته كانت تبدو وكأنها مكتوبة بلغة غريبة، رموز وأشكال لم أرها من قبل. وقبل أن أستطيع استيعاب ما أراه، سمعت نفس الصوت، هذه المرة أوضح، يقول: “لقد كنت أنتظرك منذ زمن طويل…”

اتسعت عيناي دهشة، وصوت قلبي يضج في صدري. التفتُّ نحو مصدر الصوت، فوجدت رجلاً مسنًا يقف في ركن مظلم من الغرفة، ملتحفًا بعباءة سوداء، وجهه غارق في الظلال، لكن عينيه كانتا تلمعان بشدة.

“من أنت؟” سألته، وقلبي ينبض بخوف وفضول في آن واحد.

تقدم الرجل ببطء نحو الطاولة، مشيرًا إلى الكتاب الكبير الذي كان مفتوحًا أمامي. قال بصوت عميق: “أنا حارس المعرفة المخفية. هذا الكتاب يحمل أسرارًا لا يعرفها إلا قلة من الناس، وأنت… قد تم اختيارك لتكتشف ما فيه.”

شعرت بارتباك شديد، ولكني لم أستطع التراجع. تقدمت نحو الطاولة، ونظرت إلى الصفحات مجددًا. الرموز بدأت تتحرك ببطء، وكأنها تعيد ترتيب نفسها لتشكل كلمات. نظرت إلى الرجل وسألته: “لماذا أنا؟ ماذا يريد الكتاب مني؟”

ابتسم ابتسامة غامضة وقال: “الكتاب لا يختار عبثًا. إنه يعرف ما تحتاج إلى معرفته… وما يجب أن تواجهه. هل أنت مستعد؟”

ترددت للحظة، ولكن شيئا ما في داخلي كان يدفعني للمضي قدما. مددت يدي نحو الكتاب، ولمست الصفحة، وفجأة اندلعت ضوء قوي أعمى عيني. شعرت بدفء يجتاح جسدي، وتغير المكان من حولي.

عندما استعدت رؤيتي، وجدت نفسي في مكان مختلف تمامًا. لم أعد في القبو ولا في الغرفة القديمة، بل كنت واقفًا في وسط سهل شاسع، السماء فوقي ملبدة بالغيوم الداكنة، والهواء مشحون بطاقة غامضة. الأرض تحت قدمي كانت غريبة، تشبه الرمال ولكنها تنبض كأنها حيّة.

نظرت حولي، لم يكن هناك أي أثر للرجل المسن أو الكتاب، ولكن على مسافة بعيدة، رأيت شيئًا يلمع. كان يبدو وكأنه بوابة أو مدخل كبير مصنوع من ضوء ذهبي. كان هناك شيء ما يدفعني للتحرك نحوها، وكأنني مدفوع بقوة لا أستطيع مقاومتها.

بينما كنت أقترب من البوابة، بدأت الأرض تهتز تحت قدمي، وظهرت كائنات غريبة من بين الرمال، أشكالهم غير واضحة، أشبه بالظلال المتحركة. وقفوا في طريقي، وكأنهم يحاولون منعي من الاقتراب.

توقفت للحظة، لكن حينها سمعت نفس الصوت العميق مرة أخرى، يقول: “هذا هو اختبارك. فقط من يستطيع مواجهة مخاوفه يتمكن من العبور.”

نظرت إلى الكائنات التي تقترب مني ببطء، قلبي يخفق بسرعة، ولكن تذكرت كلمات الرجل. كان علي مواجهة ما أمامي. تقدمت بخطوات ثابتة، وبدلاً من الهروب أو التراجع، نظرت مباشرة إلى الكائنات، وأحسست بأن الخوف الذي كان داخلي بدأ يتلاشى تدريجيًا.

كلما اقتربت، كانت تلك الظلال تتلاشى حتى اختفت تمامًا. عندما وصلت إلى البوابة المضيئة، أدركت أن هذا العالم لم يكن مجرد مكان، بل اختبار لروحي وإرادتي.

وضعت يدي على البوابة، وحين لمستها، اندفع ضوء آخر، أكثر سطوعًا وأقوى من الأول، وأحسست بأنني انتقلت مرة أخرى…

عندما فتحت عيني مجددًا، كنت في غرفة غريبة، جدرانها مغطاة بمرايا تعكس صورًا مشوشة وغير واضحة. في وسط الغرفة كان هناك كرسي قديم مكسو بالمخمل الأحمر. جلست عليه دون أن أدرك، وكأن قوة غير مرئية دفعتني للجلوس.

فجأة، بدأت المرايا تلمع، وظهرت فيها صور، لكن لم تكن مجرد انعكاسات لي، بل كانت مشاهد من حياتي. رأيت نفسي طفلًا صغيرًا، ضاحكًا ومتحمسًا، ثم رأيت لحظات من خيباتي وفشلي. كل مرآة كانت تكشف جانبًا من رحلتي في الحياة، أحيانًا تسعدني، وأحيانًا تثقل قلبي بالندم.

وسط تلك المشاهد، سمعت الصوت مجددًا، أكثر وضوحًا هذه المرة: “كل ما رأيته هنا هو جزء منك. لكن لتكتمل الرحلة، يجب أن تواجه الحقيقة التي تهرب منها.”

نظرت إلى إحدى المرايا، وظهرت صورة لم أكن أتوقعها: رأيت نفسي في لحظة ترددت فيها كثيرًا عن اتخاذ قرار مصيري، لحظة اخترت فيها الطريق الأسهل وتخليت عن أحلامي.

“هذه هي الحقيقة التي تهرب منها”، قال الصوت. “لا يمكنك التقدم دون أن تصحح ما فات.”

أحسست بأن وزني يزداد، كأن الغرفة بأكملها تضغط عليّ. كانت تلك اللحظة أكبر اختبار لي، هل أستطيع مواجهة قراراتي الماضية؟ هل أملك الشجاعة لتغيير نفسي حقًا؟

وقفت ببطء أمام المرآة، وأخذت نفسًا عميقًا. قلت بصوت هادئ لكن ثابت: “أعترف. أخطأت. ولكني مستعد الآن لتصحيح المسار.”

بمجرد أن نطقت تلك الكلمات، اهتزت الغرفة من حولي، والمرايا بدأت تتكسر واحدة تلو الأخرى، ووراء كل واحدة منها كان هناك ضوء ساطع. المرايا التي كانت تعكس الماضي، بدأت تنهار، وكأنها تحررني من قيود قديمة.

وقفت في وسط الدمار، وكان النور يتزايد حتى غمر كل شيء. ثم سمعت الصوت يقول بهدوء: “لقد اجتزت الاختبار. مرحبًا بك في البداية الجديدة.”

نرغب في توثيق لحظاتنا حتى لا تضيع في زحام الحياة.

تعليقات

  1. أشكرك على هذا الإبداع في الكتابه الذي شدني وأسلوب قمه في التمكن في البدايه ضنيت انك في مكان يسكنه الجن وبعدها في مرحلة بداية التخاطب مع الذات وبعدها الخوص في النفس اكثر والعلم والمعرفه اكثر ماذا اوريد ومن أنا وبعدها مرحلة التخطي والمواجهه وتقرير هل أبقى كما كنت او أكون واعي واتخلص من التراكمات اول بأول وكما قيل اغلب المرضى هم ضحيا لاناس أنانيين فقدوا معنى الرحمه والسعيد من جبره الله ولم يصبح ضحيه او نسخه مكرر من ظالم آخر مقياس الماده طغى على إنسانية بعض البشر ونسبوا ان الله حق عدل وبالآخير الجميع يتساوى بقطعة قماش بيضاء وقبرت من تراب

    ردحذف

إرسال تعليق

مرآة الأسرار: رحلة نحو النور

لا تخافي يا بنتي