الروح الضائعه

 كنت أبحث عنه كمن يبحث عن جزء من روحه الضائعة، حتى وجدته أخيرًا، منكمشًا على نفسه، متقوقعًا في زاوية منسية، كأن ظلال الألم والخذلان تخيم عليه. كان يحدق بنظرات تائهة، محمّلة بأسئلة لم يجد لها إجابات، وتنهدات عميقة تخرج من صدره كأنها تحمل أثقال العالم.


جلست بقربه، ولم أنطق بكلمة، فقط فتحْتُ ذراعي وحضنته. كانت تلك اللحظة كافية لتذيب الحواجز، كافية لأن تنساب دموعه الحارقة على صدري، دموع تحمل سنين من الكتمان، وصرخات مكتومة لم يستطع أن يُسمعها لأحد.


تركته يبكي، بلا استعجال، بلا كلمات تهدئة زائفة، فقط منحته حضني ملاذًا آمناً. شعرت بثقل دموعه، كأنها تغسل روحه المثقلة بالألم، وكأنها تبوح بكل شيء كان يخاف أن يكشف عنه. لمست في تلك الدموع قصة، قصته التي حملها بصمت طيلة هذه المدة.


وبينما كان يهدأ شيئًا فشيئًا، شعرت أن جزءًا من ألمه قد ذاب، وكأن الهمس غير المنطوق بيننا أخبره: “لست وحدك بعد الآن. هنا من يستمع لصمتك، ويشعر بوجعك، ولن يتركك تواجه الظلام وحدك.”

مع مرور الوقت، هدأت أنفاسه شيئًا فشيئًا، وبدأت ملامح وجهه تسترخي، كأن عبئًا ثقيلًا قد زال عن كتفيه. بقيت صامتة، لكنني كنت أعلم أن هذا الصمت هو كل ما يحتاجه، هو اللغة التي تفهمها روحه المنهكة. لم يكن يحتاج إلى كلمات؛ كان يحتاج إلى حضور، إلى من يشعر به دون أن يسأله “لماذا؟” أو “كيف؟”.


لمست كتفيه برفق، وبعينين تحملان عمقًا من الطمأنينة، نظرت إليه لأؤكد له أنني هنا، سأبقى هنا. كنت أراه بوضوح، ليس من الخارج فقط، بل أراه بقلبي، أرى كل تلك الجراح التي خبأها تحت السطور، كل تلك الذكريات التي طواها الزمن ولم يستطع أن يمحو آثارها.


بدأت أسمعه يهمس ببعض الكلمات، مترددة، كأنها تخاف الخروج إلى العلن. قال إن الألم كان رفيقه، وإن الوحدة كانت ملاذه حين خانته الأيام. كان يتحدث كمن ينكسر أمامي، كمن يسلم لي كل حروبه الصغيرة التي خاضها بمفرده.


لم أكن بحاجة إلى إجابات؛ كنت أعلم أن بعض الآلام لا يُشفى منها المرء بالكلمات، بل يحتاج فقط إلى من يحملها معه، من يقول له دون أن ينطق: “لن أحكم عليك، لن أتركك، سأبقى هنا حتى لو كانت رحلتك صعبة.”


وفي تلك اللحظة، شعرت بأن جزءًا من الظلام الذي كان يحيط به قد تلاشى، كأن نورًا خافتًا بدأ يتسلل إلى روحه.

بعد لحظات من الصمت المحمّل بالمعاني، شعرت وكأن جدارًا كان قد بناه حول قلبه بدأ ينهار شيئًا فشيئًا، ليكشف عن روح كانت تتوق إلى السلام، إلى حضن دافئ يعيد لها الأمان. لم أتحرك، ولم أسأله أي سؤال، فقط تركته يتنفس بحرية في تلك اللحظة، ليكتشف أن الصمت قد يصبح أحيانًا لغة قادرة على الشفاء.


أخذ نفسًا عميقًا، وكأن تلك الأنفاس كانت أولى خطواته نحو التحرر من أعباء الماضي. نظر إليّ نظرة مليئة بالامتنان، نظرة تحمل بين طياتها قصة طويلة لم يكن قد شاركها مع أحد من قبل. شعرت بأن ثقته بي بدأت تنمو، وأنه بدأ يطمئن إلى أنني لست مجرد مستمع، بل ملجأ يستطيع أن يلجأ إليه بلا تردد، بلا خوف من حكمٍ أو نقد.


بصوت خافت، بدأ يسرد تفاصيل صغيرة عن أوجاعه، عن لحظات ظن فيها أن العالم قد انطفأ من حوله، عن تلك الليالي التي كان فيها الحزن صديقًا ثقيلًا لا يرحل. استمعت إليه بصبر، وكل كلمة كانت كأنها نافذة صغيرة تفتح على قلبه، تعرّفني عليه أكثر، وتكشف عن جوهرٍ جميل، رغم كل ما مرّ به من جروح.


ومع كل جملة ينطقها، كنت أرى النور في عينيه يزداد شيئًا فشيئًا، كأن الألم حين يُشارك، يخفّ ثقله، وكأن القلب حين يجد من يشاركه عبء الطريق، يعاود النبض بقوة أكبر. لم يكن حكاياته مجرد كلمات، بل كانت قصصًا نسجتها الأيام، وأودعتها فيه ليتعلم منها، ليكبر ويتعمق في فهمه لذاته.


في تلك اللحظة، أدركت أنني لم أكن أبحث عنه عبثًا؛ فقد كان بحاجة إلى من يمد له اليد ويعيده إلى النور.

تعليقات

مرآة الأسرار: رحلة نحو النور

مرآة الأسرار: رحلة نحو النور

لا تخافي يا بنتي