قفص عصوري
فتحت قفص عصفوري لينطلق ويتجول قليلا احدهما انطلق بسرعه وأصبح يتجول في المكان وهو يغرد اما الاخر بقي في القفص يصرخ بلغته يريد الخروج لكنه عاكف في ركن القفص وكأنه يطلب المساعده حاولت أغراه بالخرج وادخلت يدي ليري ان الباب مفتوح لكن بدون فائده
راقبت العصفور الأول وهو يحلّق بحريّة، مبتهجًا بفضاءٍ واسعٍ لم يعهده من قبل. كان يرفرف بجناحيه بخفّة، يتنقل من زاوية إلى أخرى، يلمس بأجنحته الهواء بنشوة حريةٍ طالما اشتاق إليها، ويغرد بفرحٍ كأنه يحيّي الكون بأسره. كان واضحًا أن تلك اللحظات هي كل ما كان يحلم به، لحظة الانطلاق بلا قيد، لحظة الاستكشاف.
أما العصفور الآخر، فكان مشهده مختلفًا تمامًا، وكأن الحرية التي أمامه لم تكن إلا وهماً بعيد المنال. ظل في ركن القفص، ينظر إليّ بنظرات مليئة بالتوسل، يطلق صرخاته وكأنه يطلب مني أن أخرجَه. حاولت بطرق عديدة؛ فتحت له الباب، أدخلت يدي ليري أن الباب مفتوح، مددت له أصبعي لعلّه يتعلق بها ويخرج، لكن دون جدوى. كان يجثو في مكانه، يراقب الباب المفتوح بخوف، وأفكاره مثقلة بترددٍ منعه من استغلال الفرصة أمامه.
بدأت أتساءل: ما الذي يجعله يتردد؟ هل هو الخوف من المجهول الذي ينتظره خارج القفص؟ أم هو ترددٌ نشأ من طول مكوثه في أسرٍ لم يعد يتخيل الحياة خارجه؟ بدا لي أن عصفوري الحبيس ليس مقيّدًا بأسوار القفص، بل بأسوار داخله، أسوار من مخاوف وتوقعات لا يراها أحدٌ سواه.
ثم فكرت في الإنسان، وكيف يواجه البعض منا الموقف نفسه. كم منا يختار أن يبقى داخل حدود القفص رغم أن الباب مفتوح أمامه؟ كم منا يتردد، يستغيث، ويصرخ، لكنه لا يجرؤ على الخطوة الأولى نحو الحرية؟ ظننت للحظة أن هذا العصفور يعكس بعضًا مما نخفيه في دواخلنا. هناك من يرغب في التغيير، في الطيران بعيدًا، لكنه يخشى ما لا يعرفه، يخشى أن يفقد أمانه المعتاد ولو كان ذلك الأمان مجرد سجن لا أكثر.
راقبت العصفور الآخر الذي لا يزال يحلّق بحريّة، وغبطتُه على شجاعته، على اختياره أن يخوض التجربة دون تردد. وراقبت العصفور الذي بقي في القفص، ورأيت فيه رمزًا لمخاوفنا التي تمنعنا من الانطلاق نحو المجهول. وفي تلك اللحظة، شعرت برغبة في أن أقول له، بصوت لا يفهمه، أن الحياة تبدأ من تلك اللحظة التي نكسر فيها قيود الخوف، وأن الخطوة الأولى نحو الحرية هي الأجرأ لكنها الأجمل.
ظللت أتمنى أن يتحرر هو الآخر، أن يجرب ولو للحظة أن يحلق في فضاء مفتوح، أن يشعر بتلك النشوة التي يعيشها رفيقه، أن يدرك أن الحرية تستحق المغامرة.
مع مرور الوقت، بدأت ألاحظ أن العصفور الذي كان يرفض الخروج قد هدأ قليلاً. لم يعد يصرخ كما كان من قبل، بل اكتفى بمراقبة صديقه وهو يتنقل بحرية ويغرد في أرجاء المكان. كان يتابع كل حركة بحذر وفضول، وكأنه يدرس كيف يبدو الطيران في فضاء مفتوح، وكيف يمكن له أن يكون جزءًا من هذا العالم الكبير خارج أسواره المعتادة.
اقتربت منه مجددًا، ومددت يدي ببطء لأريه أن الباب لا يزال مفتوحًا، وأن الفرصة للانطلاق ما زالت متاحة. لكن هذه المرة لم أحاول إغراءه أو دفعه نحو الخارج، فقط انتظرت بصبر أن يقرر وحده. كان بإمكاني رؤية ترددٍ جديد في عينيه، مزيجٌ من الفضول والخوف. كان يخطو خطوة صغيرة نحو باب القفص ثم يتراجع، ثم خطوة أخرى يتبعها بتوقف طويل، وكأنه يوازن بين أمانه المألوف وحرية مغرية لكنها غير مألوفة.
وبعد صبرٍ طويل، شاهدت لحظة شجاعة بسيطة منه، خطوة خجولة لكنها محورية. وضع قدميه على حافة القفص، يختلس النظر إلى الخارج وكأنه يتحسس الأمان في هذا العالم الواسع. أخذ وقتًا طويلاً على تلك الحافة، مترددًا ما بين العودة للخلف أو الانطلاق للأمام. كان يبدو كمن يواجه نفسه، بين المخاوف القديمة والرغبة الصادقة في أن يحيا الحياة الحقيقية.
ثم، أخيرًا، بجسارة خافتة وهدوء مثير، خطى الخطوة المنتظرة. لم يكن انطلاقه صاخبًا أو مليئًا بالحماسة كما فعل صديقه، بل كان طيرانه الأول حذرًا وبطيئًا، كأنما يتلمّس معالم طريقٍ جديد لم يألفه من قبل. لكنه رغم ذلك، كان يحلق. كان في النهاية يختبر حريته، تلك الحرية التي كانت ممكنة له منذ البداية لكنه لم يملك الشجاعة لخوضها حتى تلك اللحظة.
تأملته وهو يرفرف بجناحيه الصغيرين، يتنقل بين الزوايا بحذر، وكأنما يتعلّم كيفية التناغم مع هذا الفضاء الجديد. وبمرور الوقت، بدأت حركاته تصبح أكثر ثقة، بدأ يتجرأ على التحليق أسرع وأبعد، يختبر قوته ويجد لحنه الخاص في هذا الكون الفسيح. كان وكأنه يعيد اكتشاف ذاته بعيدًا عن الحدود التي اعتادها، وكأن الأفق بات يتسع أمامه بمقدار جرأته وإقدامه على الخروج.
في تلك اللحظة، شعرت بفرحة كبيرة في داخلي، فرحة شاهد يرى حكاية شجاعة تتجسد أمامه، قصة تتحدث عن كسر القيود والانتصار على الذات. أدركت أن هذا العصفور لم يكن مجرّد طائر، بل كان درسًا حقيقيًا في الشجاعة والحرية، درسًا يذكرني ويذكر كل من يراه بأن الانطلاق نحو المجهول قد يكون مخيفًا، لكن التجربة تستحق كل خطوة جريئة.
عندما عاد كلا العصفورين إلى القفص بعد رحلتهما القصيرة، شعرت بشيء مختلف في عيون العصفور الثاني، ذلك الذي كان يخشى الخروج. كان في عينيه بريق جديد، وكأن تجربته البسيطة تلك قد أضافت إليه شيئًا جديدًا. لم يعد ذلك العصفور الحبيس المتردد، بل صار روحًا تجرأت مرةً وستتجرأ مرة أخرى.
تعليقات
إرسال تعليق