قصة "ما رواه البحر"


كان البحر دائمًا يهمسُ بأسرارهِ لكل من جلس على شاطئه. لكنه كان يختار بعنايةٍ أولئك الذين يفهمون لغتهُ العميقة. جلس رجلٌ مُتعبٌ ذات يومٍ على الرمال، وعينيه تحملان آثار السنين وتجاربه الطويلة. لم يكن يبحث عن شيءٍ محدد، بل كان يسعى للهروب من ضجيج العالم، لعل الأمواج تحملُ له راحةً مفقودة.

وفي تلك اللحظة، بدأت الأمواجُ تتحدثُ إليه بلغةٍ لم يكن يسمعها من قبل. قال له البحر: "لقد رأيتُ الكثير، جئتَ إليّ وأنتَ تحملُ أثقالك، فدعني أُخبرك قصتي."

سأل الرجل: "وما قصتكَ يا بحر؟ أنت هنا منذ الأزل، تُعانقُ الشواطئ وتبتلعُ الأسرار. ماذا يمكن أن تخبرني؟"

ابتسم البحر بابتسامةٍ خفية وقال: "قصتي ليست كما تظن، إنها قصة التغيير. لقد كنتُ يومًا هادئًا، مسالمًا، لكنني تعلمت من الرياح كيف أكون عاصفًا، ومن الأمطار كيف أكون سخيًا، ومن الشمس كيف أكون حارقًا. لكن في كل تغييرٍ مررتُ به، لم أفقد جوهري."

تفكر الرجل في كلمات البحر وقال: "لكن ما جوهركَ إذن؟"

أجاب البحر: "جوهري هو العمق، مهما تعالت الأمواج على السطح، يبقى في داخلي السكون. قد يبدو لي الغضبُ فوق الماء، لكني في عمقي أظل هادئًا."

ابتسم الرجل وأدرك أنه مثل البحر. قد تهتز حياته على السطح وتتشوش، لكنه في أعماقه يحمل سكونًا لا يستطيع الزمن أن يغيره. فهم أن فلسفة البحر تكمن في القبول بأن التغيير أمرٌ لا مفر منه، لكننا نملكُ في أعماقنا القدرة على الحفاظ على جوهرنا مهما حدث.

عاد الرجل إلى بيته، لكنه لم يعد كما كان. كان يحمل في داخله هدوء البحر وعمقه، وأصبح يروي لأطفاله قصة البحر العميقة، ليعلمهم أن السطح قد يتغير، لكن ما في داخلهم هو ما يحدد حقيقتهم.

عاد الرجل إلى بيته، وكأن صدى حوار البحر لا يزال يتردد في عقله. جلس مع أطفاله في تلك الليلة المقمرة، وأخذ يحكي لهم القصة بتفاصيلها، لكنه أضاف لهم بعدًا جديدًا لم يتوقعوه.

قال: "ما رواه لي البحر لم يكن مجرد قصة، بل درسٌ عن الحياة. الحياة يا أبنائي مثل البحر، قد تكون هادئة أحيانًا وعاصفة أحيانًا أخرى، ولكن ما يهم هو أن نحافظ على أعماقنا هادئة. تمامًا كما يبقى البحر هادئًا في العمق مهما اشتدت أمواجه."

تساءل ابنه الأكبر: "ولكن يا أبي، كيف يمكننا أن نحافظ على الهدوء في داخلنا، رغم أن الحياة ترمي علينا مشكلاتها كما ترمي الأمواج الصخور؟"

ابتسم الأب وقال: "السؤال الحقيقي ليس كيف نحافظ على الهدوء، بل كيف نتقبل أن الأمواج جزء من الحياة. التغيير يا بني هو أمرٌ طبيعي. ستجدُ في كل لحظة من حياتك شيئًا مختلفًا؛ الناس يتغيرون، الظروف تتبدل، وحتى نحن أنفسنا لا نبقى كما كنا. لكن إذا تعلمت أن تقبل التغيير بدلاً من أن تخافه، ستجد في داخلك السكون الذي لا تهزّه العواصف."

فكر ابنه الآخر قليلاً ثم قال: "لكن ماذا لو أصبحنا مثل الصخور التي تضربها الأمواج؟ ماذا لو انكسرنا؟"

ضحك الأب بهدوء وقال: "الصخور على الشاطئ قد تتحطم بفعل الأمواج، لكنها على مدى الزمن تتحول إلى رمال ناعمة. وهذا يا ولدي ما يجب أن نتعلمه؛ أن التحطّم ليس النهاية، بل بداية جديدة. عندما تظن أنك تحطمت، كن مستعدًا لأن تصبح شيئًا آخر، ربما أفضل وأقوى."

في تلك اللحظة، شعر الأبناء بأنهم قد فهموا جزءًا من عمق فلسفة البحر. وبينما كانوا يحدقون في السماء الممتلئة بالنجوم، أدركوا أن حياتهم ليست مجرد رحلة بين أمواج الهدوء والعواصف، بل هي رحلة بحث عن عمقٍ لا يتغير وسط كل ما يتغير.



بهذا الدرس العميق، استمر الرجل في سرد حكايات البحر لأطفاله، ولكنهم لم يعودوا يرون البحر كمجرد مساحة مائية هائلة، بل كرمز للحياة في عمقها وتحولاتها.

تعليقات

مرآة الأسرار: رحلة نحو النور

مرآة الأسرار: رحلة نحو النور

لا تخافي يا بنتي