بينما كنتُ أجلس أمام البحر الهادئ، شعرتُ كأنه يستعد ليشاركني حكمة عميقة، كأنه يريد أن يُهدي إليَّ درسًا لا يُنسى. في تلك اللحظة، همس لي قائلاً: “يا بُني، إن أردتَ أن تتجنب ألمًا قد يدفعك للبحث عن شفاء لروحك، فعليك أن تُصغي لي وتتعلم من دروسي.”


واصل البحر حديثه قائلاً: “لا تحمل في قلبك أوجاعًا تثقلك، فقلبي يتسع لكل أحزانك. كلما شعرتَ بالضيق، اقترب مني وألقِ بما يعكر صفوك في حضني. دعني أتحمل عنك مشاعر الوحدة والتيه، سأحتويها كما أحتوي أمواجي. أنا هنا لأذكّرك أنك قوي كأعماقي، وأن السكينة تسكن داخلك كما تسكن في مياهِ أعماقي.”


أخذ البحر نفسًا عميقًا، وكأن موجاته تعكس كلماته، وقال: “الحياة مليئة بالأمواج، بعضها يدفعك للأمام، وبعضها يسحبك للخلف. تعلّم أن تمايل مع الموج، أن تكون مرنًا بدلًا من أن تقاوم التيارات القوية. احتفظ بخفة روحية، وبدلًا من أن تغرق في أحزانك، تعلّم كيف تطفو فوقها، كيف تجد النور في أصغر لحظات الفرح.”


وأكمل البحر حديثه بحنان: “تذكر، يا بُني، أن في داخلك عُمقًا لا يُسبر، مثل أعماقي. لست مضطرًا لمشاركة كل ما بداخلك مع الآخرين، يكفي أن تفهم نفسك، وأن تبوح لي بما لا تستطيع قوله للبشر. في كل مرة تأتي إلي، سأمنحك القوة والصبر، وسأغسل عنك بقايا الخوف، لأتركك نقيًا وشفافًا كأمواجي.”


توقف البحر لبرهة، ثم عاد ليهمس: “تذكر أن العواصف مؤقتة، وأن الصفاء دائمًا يعود بعد كل عاصفة. أصعب اللحظات ليست نهايات، بل بدايات لنمو جديد. لا تخشَ ضعفك، بل اجعل منه مصدرًا لقوة جديدة؛ ففي كل مرة تُلقي فيها همومك في أعماقي، أعدك بأنني سأعيد إليك سلامك الداخلي، وستشعر أنك وُلدت من جديد.”


عند انتهاء كلماته، شعرتُ أن كلماته حفرت في أعماقي، وكأنني وجدت ملاذًا آمنًا أعود إليه كلما أثقلني العالم. شعرتُ بالقوة، بالاتزان، وبقربي من ذاتي، ومع كل موجة تلامس قدمي، كان البحر يهمس: “أنا هنا، سأكون دائمًا هنا.”


حين هدأ البحر أخيرًا، شعرت أن كلماته تسللت إلى عمق قلبي، وكأنها بذور ستنمو مع الوقت لتصبح شجرة من القوة والسلام. وبينما كنت أجلس على الشاطئ، تذكرت كلماته الأخيرة، كأن صوته يهمس لي مجددًا:


“يا بني، إن أعظم أسرار السلام هو أن تقبل على الحياة بقلب مفتوح، دون خوف من الخسارة أو الفشل. انظر إلى الأمواج، فهي تأتي وتذهب بثقة؛ لأنها تعلم أن عودتها حتمية، وأن وجودها جزء من دورة أكبر. كن مثلها، وتحرر من قيود الماضي ومن قلق المستقبل. لا تتعلق بالأشياء، اجعل أهدافك جزءًا من رحلتك، لا غايتك النهائية.”


وتابع البحر: “في أعماقي توجد أصداف ورمال مخفية لا تصلها الشمس، لكنها لا تفقد جمالها بسبب الظلام. تذكّر ذلك إذا مررت بأيام مظلمة أو شعرت أن الحياة تسحبك نحو القاع. لا تخشَ الظلام، ففي أعماقك تكمن قوة قد لا تظهر إلا في العتمة.”


ثم أضاف بحكمة: “لا تجهد نفسك بمحاولة فهم كل شيء أو السيطرة على كل جوانب حياتك؛ السيطرة وهم. الحياة تشبه المد والجزر، تأتي وتذهب، وكل ما عليك هو أن تراقب وتتعلم من تدفقها. كن جزءًا من هذا التيار ولا تحاول مقاومته، فالسكون الحقيقي لا يأتي إلا لمن ينسجم مع حركة الحياة ويثق في مسارها.”


ومضى ليقول: “حين تشتد العواصف وتعلو الأمواج، لا بأس أن تتراجع قليلًا لتلتقط أنفاسك. التراجع ليس ضعفًا، بل فرصة لإعادة النظر، لتجميع قوتك لتعود مجددًا، أقوى لمواجهة التحديات القادمة.”


عند انتهاء حديثه، شعرت أنني أصبحت جزءًا من البحر نفسه، وكأن كل موجة تداعب قدمي تحمل رسالة جديدة، مؤكدة لي أنني لست وحدي، وأن الحياة، كالبحر، تمنحنا دروسًا دون انقطاع. نهضت من مكاني


عندما بدأت في السير على طول الشاطئ، كان النسيم يُداعب وجهي، وقطرات الماء تلامس قدميّ، وكأنها تذكير لطيف بما حدث للتو. شعرت بأن كل خطوة أضعها على الرمال تترك أثراً، لكنه سرعان ما يمحى مع انحسار الموج، ليعلمني درسًا آخر: أن الحياة تتجدد دائمًا، وأن لا شيء يدوم للأبد.


تذكرت كلمات البحر عن السكون الحقيقي ومرونة الروح، وكيف أنّ تلك المرونة ليست ضعفاً بل شجاعة في أن تتقبل تدفق الحياة بكل ما فيها. كان البحر يهمس لي بأسرار الرضا، بأنه لا بأس أن أسمح لنفسي بالاستراحة عند الحاجة، وأتقبل التغييرات بروح متزنة، لأن تلك التغييرات هي جزء من الرحلة.


استوعبت أكثر فأكثر كيف أنّ القوة الحقيقية ليست في مقاومة الرياح، بل في الانسجام معها، في أن أكون مثل الأمواج: أعود وأذهب، أحمل تجاربي معي، وأدعها تروي قصتي بهدوء. ومع كل تجربة، يزداد عمقي الداخلي قوة وثباتاً، مثل البحر الذي يحتضن في عمقه أشياء لا تُرى، لكنه لا يحتاج لأن يكشفها للكل، بل يحفظها كجزء من كينونته.


ومع بزوغ أول خيط من النور، شعرت بأن بداخلي اتساعًا جديدًا، وكأن قلبي أصبح بحراً صغيراً يحتضن كل لحظات الألم والفرح، الهزائم والانتصارات، وكل ما كان يومًا يثقلني أصبح الآن جزءًا من نسيج روحي، لكنه لم يعد يعيقني.


عدت بنظري نحو البحر آخر مرة، شعرت بشكر عميق، وتذكرت وعده لي، بأن يكون دائمًا هنا، جاهزًا لاحتوائي حين أحتاج إليه. كنت أعلم أنني كلما عدت إليه، سيجددني، وسيذكرني بأنني، تماماً كالأمواج، قادر على مواصلة رحلتي مهما كانت الظروف.

تعليقات

مرآة الأسرار: رحلة نحو النور

مرآة الأسرار: رحلة نحو النور

لا تخافي يا بنتي