حينما كانت الفوضى تتحدث عني، مستفحلة في أرجاء المكان، استيقظت على صوت عصفور ينبه زميله قائلاً: “لا تقترب من هنا! هذا مكان لا يناسبنا، ألا ترى الفوضى في كل مكان؟ كل شيء متناثر، لا نظام، لا هدوء… يبدو وكأن أحدهم نسي كيف يجعل هذا المكان ينبض بالحياة.”
توقف العصفوران عند حافة النافذة، ينظران إلى الداخل بتردد، وكأنهما في حيرة. بدأ أحدهما يسأل الآخر: “ماذا حدث لهذا المكان؟ كان في السابق جميلاً، مليئًا بالنور، لكنه الآن يبدو وكأنه قد فقد بريقه.”
وفي تلك اللحظة، شعرت بتردد العصفورين ينعكس داخلي. كأنما كانا يرسلان لي رسالة غير معلنة: أنني، كما الفوضى من حولي، قد نسيت كيف أرتب أفكاري وأجمع شتات ذاتي. الفوضى كانت تعكس حالتي، وكانت تسرق مني راحتي وصفاءي الداخلي.
أخذت نفساً عميقاً، وكأنني أقرر التغيير. ربما كانت هذه اللحظة هي البداية. العصفوران هناك، ينظران إليّ وكأنهما يشجعانني أن أبدأ، أن أستعيد ترتيب حياتي من جديد. ربما، مثلما يفضلان التحليق في أجواء نقية، عليّ أن أهيئ لنفسي فضاءً يليق بي وبأحلامي.
فهمت الآن، أن الفوضى التي تتحدث عني هي نداء من داخلي لأبدأ من جديد، لأعيد التوازن والهدوء إلى مكاني وذاتي.
شعرت بأن العصفورين هما أكثر من مجرد زائرين عابرين؛ كأنهما مرآة تعكس رسائل خفية من أعماقي، ومن حولي. تطلعت إليهما وهما يحدقان في المكان، كما لو أن صمتهم يحمل دعوة للتحرك، لتحرير نفسي من كل ما يثقلني.
تنفست بعمق، وكأنني لأول مرة أرى حقًا الفوضى التي تراكمت بمرور الأيام. أشيائي المتناثرة في كل زاوية، وكأنها تهمس كل منها بسر من أسرار ترددي أو خوفي، بألم من ماضٍ لم أجرؤ على مواجهته أو فكرة طموحة أجلتها مرارًا. شعرت أنني متورطة في دوامة تراكمات لم أسمح لنفسي قط بمواجهتها، وأن كل قطعة في هذا المكان تحمل ذكرى عالقة، كانت تزيد من ضبابية رؤيتي للغد.
ثم بدأت ألتفت حولي، وكأنني أنظر لكل ركن ولون بتفحص جديد. كان هنالك أشياء لم أعد بحاجة إليها، أفكار بليت، أحلام تراكم عليها غبار الزمن، وتطلعات فقدت رونقها. كان الوقت قد حان، ليس فقط لتنظيف المكان، بل لتنظيف قلبي وعقلي، للبدء من جديد.
نظرت إلى العصفورين، كأنني أقول لهما: “انتظرا قليلًا. سأعيد التوازن هنا، كما سأعيده داخلي. هذا المكان سيصبح ملاذًا، هادئًا، نقيًا، كما تستحقه أرواحكم الرقيقة.” وابتسمت لنفسي لأول مرة منذ زمن، شعرت بأنني أملك القدرة على ترتيب هذه الفوضى، خطوة بخطوة، دون خوف من الماضي أو تردد من المستقبل.
وبينما بدأت أزيل كل شيء لا يعبر عني، شعرت وكأنني أزيل عن كاهلي كل عبء لم يعد يناسبني. أحسست بنور خفي يتسلل إلى داخلي، كما لو أن العصفورين كانا شهودًا على بداية جديدة، بداية حياة أقل ضجيجًا وأكثر نقاءً.
ثم طارا مبتعدين، ومعهما ذهب ثقل الفوضى القديمة، بينما بقيت أنا، أعد المكان لاستقبال أحلامي الجديدة، ولإعادة الروح إلى نفسي، علّي أستعيد هدوئي وأناقة أيامي.
تعليقات
إرسال تعليق