عندما يهمس الياسمين، ينقلني إلى عوالم من النقاء والهدوء. كأن لكل زهرة قصة ترويها بلغة لا يسمعها إلا القلب. في عتمة الليل أو أولى ساعات الصباح، يطل الياسمين برائحته العذبة، بهمساته الرقيقة، ليذكّرني بأشياء تلامس الروح، بأشياء نقيّة، صافية، تشبه البياض الذي يكتسيه.


أقف أمامه، أغمض عيني وأتنفس بعمق، وأشعر كأنني في حضرة قصيدة قديمة، كلماتها مكتوبة في الهواء، لا تُرى ولكن تُحس. الياسمين يحمل في طياته حكمة الزمن، هدوء العواصف بعد أن تهدأ، وصبر الأرض وهي تنتظر الربيع ليعيد إليها الحياة.


همسات الياسمين تشعرني أن هناك دوماً فسحة من الجمال حولنا، حتى في أحلك الأوقات. يدعوني لأتذكر أن اللطف والأمل لا يحتاجان إلى ضجيج، بل يكفي أن يكونا حاضرين بهدوء، مثل عطوره، ليغمرا الحياة بلون مختلف.


أدركت أن الياسمين، في بساطته وعطره، يحمل فلسفة عميقة؛ فهو يزهر دون أن يطلب مديحاً، يفوح عطراً دون أن ينتظر امتناناً. يعلمني أن أعيش ببساطة، أن أترك أثراً دون ضجيج، وأن أكون حضورًا لطيفًا في حياة من حولي، تماماً كما يفعل الياسمين بهدوء وحنان.

وحين أستسلم لهمسات الياسمين، أشعر بأنه يزرع في داخلي شيئًا من السلام، كأنه يقول لي: “لا بأس أن تكون حياتك هادئة، أن تكون خطواتك خفيفة.” كأنه يذكرني أن الجمال الحقيقي لا يحتاج أن يُعلَن، وأن العطر الفواح لا يطلب تصريحًا كي يصل إلى القلوب.


في تلك اللحظات، أستوعب أن الياسمين لا يسعى للتنافس، لا يلتفت حوله ليقارن نفسه بباقي الأزهار، بل يزهر في هدوء، مكتفيًا بما هو عليه. أجد في همساته دعوة صامتة، تدعوني لأتوقف عن الركض وراء المقارنات، وأن أكتفي بكوني كما أنا، بطبيعتي الخاصة، بزهوري التي تتفتح وقتما تشاء، وبعطري الذي ينثر ذاته دون انتظار مقابل.


أنصت للياسمين، وهو يشدني إلى الأرض برفق، يذكرني بأن الحياة ليست سوى لحظات نتوقف فيها لنلتقط أنفاسنا، لنشم عطرها، ونتأمل البسيط منها. يعلمنا أن نفتح قلوبنا للعطاء بلا انتظار، وأن نزرع البهجة دون أن نبحث عن الثناء، وأن نصبح مرآة لنقاء الطبيعة ذاتها.


وعندما يهمس الياسمين، أعرف أنني على مسافة قريبة من قلبي، من جذوري، من ذاتي الحقيقية التي لا تعرف سوى البساطة، وتجد في الأشياء الصغيرة عمقاً وسحراً لا ينتهي.

تعليقات

مرآة الأسرار: رحلة نحو النور

مرآة الأسرار: رحلة نحو النور

لا تخافي يا بنتي