رحلة عبر السفينة

 كنت مستلقية على ظهر السفينة، أراقب البحر وهو يفتح لي أبوابه الواسعة، كأنني ضيفته المميزة. الموجات تهدهدني بلطف، تهمس في أذني بأسرارها القديمة، تطلب مني الكتمان وكأنني حارسة أسرارها الأبدية. شعرت بالانسجام الكامل مع هذا العالم الذي لا حدود له، كل شيء من حولي كان يتحدث، حتى الصمت نفسه كان يحمل رسائل خفية.


ثم فجأة، انجذبت عيناي إلى السماء. هناك، رأيت سحابتين كأنهما في اجتماع هادئ. كانتا تتبادلان النظرات والتلميحات، وكأنهما تتفاوضان على مساراتهما القادمة. بدا لي أن بينهما حوارًا عميقًا، ربما عن الأمطار التي ستحملانها، أو عن الأراضي التي ستزورها ظلالهما. شعرت وكأنني أشارك في سر آخر، سر السحب المتجولة التي تختار وجهاتها بصمت وحرية.


أخذت أراقبهما بشغف، وأفكر: هل نحن مثل هذه السحب؟ نلتقي، نتحاور، ثم نختار طرقنا، أحيانًا نذهب معًا، وأحيانًا نفرقنا الرياح، لكننا في النهاية نكمل رحلتنا، حاملين معنا شيئًا من أثر كل من التقيناهم. البحر من تحتي، والسماء من فوقي، وكلاهما يعلمان أن الرحلة هي كل شيء.

ظللت أراقب السحابتين وهما تنجرفان بهدوء في فضاء السماء، كأنهما أرواح تائهة تبحث عن مأوى أو رسالة تحملها. بدا لي وكأنهما كانتا في حوار طويل، ليس بالكلمات التي نعرفها، بل بلغة أعمق، لغة لا يسمعها إلا من ينصت بقلبه. ربما كانتا تتحدثان عن رحلتهما، عن الأراضي التي عبرتاها، عن الناس الذين رفعوا أعينهم إليهما طلبًا للمطر أو للتأمل.


شعرت أنني جزء من هذه المحادثة السماوية، كأن السحابتين تدعوانني لأشاركهما رحلتهما الخفية. هل كانت إحداهما تقترح أن تنجرف نحو الجنوب، حيث تنتظرها أراضٍ عطشى؟ أم أن الأخرى كانت تفضل البقاء في الشمال، لتغمر الجبال بقطراتها؟ بدا وكأنهما تتناقشان بهدوء حول الوجهة المقبلة، وكل منهما تحترم وجهة نظر الأخرى، بلا صدام ولا استعجال.


وفي تلك اللحظة، أدركت كم هو جميل أن نترك أنفسنا للتيار أحيانًا، أن نتبع الرياح أينما تأخذنا دون مقاومة، مع ثقة تامة بأن كل وجهة، وكل محطة، تحمل لنا درسًا أو تجربة. تمامًا كما تفعل السحب، تجتمع وتفترق، تسافر بلا خوف، وتؤمن بأن لكل قطرة تسقط من جوفها هدفًا محددًا، حتى لو بدا صغيرًا أو غير ملحوظ.


أخذت أفكر في حياتي، في تلك القرارات التي بدت ثقيلة أو مترددة. كم مرة كنت مثل تلك السحب، في حيرة بين وجهتين، في انتظار إشارة، في محاولة لاتخاذ قرار يبدو حاسمًا؟ لكن البحر من تحتي كان يهمس لي أن كل الطرق تؤدي إلى حيث يجب أن نكون. وأن الرحلة، بكل ما فيها من تردد وتجارب، هي التي تمنحنا المعنى.


السماء فوقي كانت لوحة متحركة، والسحب جزء من هذا المشهد الكبير، وأنا، المستلقية على ظهر السفينة، شعرت وكأنني بينهما، بين البحر والسماء، بين الرحلة والحوار، بين الأمواج التي تحملني والسحب التي ترشدني. أدركت أن كل شيء حولي كان في حالة توازن مثالي، حتى تلك السحب، التي بدت مترددة، كانت في الحقيقة تعرف وجهتها، حتى لو لم تعلن عنها بعد.


وفي النهاية، انفصلت السحابتان، كل واحدة أخذت مسارها الخاص. واحدة انجرفت نحو الأفق البعيد، بينما الأخرى بقيت معلقة لبعض الوقت، كأنها تودع رفيقتها. شعرت بالسلام يغمرني، وكأن السماء نفسها تهمس لي أن كل اجتماع يحمل في طياته وداعًا، وكل وداع يمهد لاجتماع جديد، وأن في كل لحظة نعيشها سرًا ينتظر أن نكتشفه.

بينما كنت أتابع السحابتين وهما تبتعدان، شعرت بأن شيئًا بداخلي يتحرك، وكأنني أستوعب درسًا عميقًا كان الكون يحاول أن يهمس به لي منذ زمن طويل. كان لكل سحابة وجهتها الخاصة، لكنهما لم تنفصلا بروح الحزن أو الفقد، بل بروح من يتقبل دورة الحياة ويؤمن بأن الفراق ليس سوى محطة عابرة في رحلة أطول.


التفتُّ إلى البحر مجددًا، إلى تلك الأمواج التي كانت تلامس السفينة برفق، وكأنها تطمئنني أنني لست وحدي في هذا الكون الواسع. أدركت أن البحر والسماء، بكل شساعتهما، يعكسان حياة البشر: لقاءات، رحلات، قرارات، فراقات، وانطلاقات جديدة. كل شيء يتحرك في انسجام عجيب، بلا استعجال، وبلا مقاومة.


وفي تلك اللحظة، تذكرت كل اللحظات التي شعرت فيها بالضياع أو التردد، كل الأوقات التي كنت أبحث فيها عن وجهة أو هدف. أدركت أنني، مثل السحب، كنت دائمًا أتحرك، حتى حينما شعرت أنني عالقة. فالرياح كانت تدفعني بلطف، والأمواج تحت قدمي كانت تحملني، حتى وإن لم أكن أعي ذلك حينها.


كانت السحابة الباقية لا تزال تسبح في السماء، وكأنها تنتظر رفيقًا جديدًا أو ربما وجهة مختلفة. أدركت أن الوفرة الحقيقية ليست في الوصول إلى مكان محدد، بل في القبول التام بكل ما تحمله الرحلة من تحولات. إنها في الاستعداد لاستقبال كل جديد دون خوف، في الثقة بأن كل لحظة تحمل لنا وفرتها الخاصة، حتى لو بدت بسيطة أو عابرة.


ثم، فجأة، تحركت السحابة المتبقية، وكأنها قررت أخيرًا وجهتها. تابعتها بعيني حتى اختفت في الأفق، تاركةً وراءها شعورًا عميقًا بالسلام. في تلك اللحظة، شعرت أنني جاهزة لأن أفتح ذراعيّ للحياة بكل ما فيها.


أخذت نفسًا عميقًا، وقلت لنفسي: “كما للبحر أسراره، وللسحب وجهاتها، لي أيضًا رحلتي الفريدة. سأثق في التيار، سأستمع لهمسات الرياح، وسأمضي إلى حيث تأخذني الحياة، بسلام وقلب مفتوح”.

تعليقات

مرآة الأسرار: رحلة نحو النور

مرآة الأسرار: رحلة نحو النور

لا تخافي يا بنتي