لست قوية كفاية
رايتها في ركن الحديقه سارحه والدموع مغرقها وجنبيها اقتربت منها بلطف ماذا يحزنك يا فتاتي هل لك أن تخبرني الحزن لا يليق بمثلك
فرفعت رأسها ببطء ونظرت إليّ بعينين مليئتين بالدموع، وكأنها تحمل في داخلها آلاف الكلمات التي لم تنطق بها. قالت بصوت خافت متقطع: “أحيانًا، يا أبي، أشعر أن العالم أكبر مني، وأنني ضائعة فيه. كل شيء يبدو لي ثقيلاً، وكأنني لا أستطيع حمله وحدي.”
اقتربت منها أكثر، جلست بجانبها، ووضعت يدي برفق على كتفها. قلت لها بحنان: “يا صغيرتي، الحزن جزء من الحياة، ولكن لا ينبغي له أن يسكن قلبك لفترة طويلة. لكل مشكلة حل، ولكل ليلة مظلمة شروق جديد. نحن هنا لنحمل معًا ما يثقل كاهلك. أحيانًا، نحتاج فقط لأن نتحدث عما بداخلنا حتى نخفف من وطأته.”
تنهدت بعمق وأجابت: “لكنني لا أعرف كيف أصف ما أشعر به… إنه خليط من كل شيء.”
ابتسمت لها وقلت: “ليس عليك أن تجدي الكلمات دائمًا. أنا هنا، ولن أتركك وحدك حتى يخف هذا الثقل من قلبك. فقط تذكري، لا بأس أن تكوني ضعيفة أحيانًا، لكن لا تنسي أن القوة موجودة بداخلك دائماً.”
نظرت إليّ مرة أخرى، وكأنها تبحث عن الأمان في كلماتي، ثم بدأت تتحدث ببطء: “إنها ليست مشكلة واحدة، بل هي سلسلة من الأحداث التي تراكمت في داخلي. أشعر بالضياع يا أبي… بين ما أتوقعه من نفسي وما يتوقعه الآخرون مني. الجميع يراني قوية، صبورة، ولكن في الداخل، أشعر أنني على وشك الانهيار.”
توقفت لبرهة، وكأنها تحاول جمع شتات أفكارها، ثم أضافت: “في المدرسة، أشعر بأنني مطالبة دائمًا بأن أكون مثالية. علامات ممتازة، شخصية مستقلة، صداقات قوية… ولكنني أحيانًا لا أستطيع أن أكون كل ذلك في آن واحد. أشعر بالضغط، وأخاف أن أخيب آمال الجميع.”
استمعت لها باهتمام، وقلبي يزداد ثقلاً مع كل كلمة تقولها. ثم واصلت: “هناك صديقتي المقربة، لقد ابتعدنا فجأة. لا أعرف لماذا، لم يحدث شيء كبير، ولكن المسافة بيننا تزداد. كنت أعتمد عليها، والآن أشعر بالوحدة.”
مسحت دموعها وهي تقول: “أشعر أحيانًا أنني لا أنتمي إلى أي مكان، وكأنني عالقة بين عالمين… أريد أن أرضي الجميع، لكنني في النهاية أفقد نفسي.”
مددت يدي لأمسك بيدها وقلت لها بهدوء: “ما تمرين به ليس سهلاً، ولكل واحد منا تلك اللحظات التي يشعر فيها بأنه ضائع. لكن، يا ابنتي، لا يجب أن تحملي هذا العبء وحدك. هناك وقت لكل شيء، ولا يجب أن تكوني مثالية. يكفي أن تكوني أنتِ… بكل ما فيكِ من مشاعر وتناقضات.”
نظرت إليّ بهدوء، وكأنها كانت تنتظر سماع هذه الكلمات، ثم أضافت بصوت أكثر هدوءًا: “أريد فقط أن أجد الراحة، أن أشعر بأنني لست مضطرة للتظاهر بأن كل شيء بخير.”
ابتسمت لها وقلت: “الراحة ستأتي يا صغيرتي، ولكنها تبدأ من الداخل. تذكري، لا بأس أن تطلبي المساعدة، ولا بأس أن تخففي من الضغط. الحياة ليست سباقًا نحو الكمال، بل هي رحلة للتعلم والنمو.”
رفعت رأسها قليلاً، وكأن الكلمات التي قلتها بدأت تجد طريقها إلى قلبها. ساد الصمت للحظات بيننا، لكنه كان صمتًا مريحًا، مليئًا بالفهم والمشاركة. شعرت أن هذه اللحظة كانت بالنسبة لها متنفسًا، فرصة أخيرًا لتكون ضعيفة وصادقة دون خوف من الحكم أو الرفض.
ثم قالت: “لكن كيف يمكنني أن أسمح لنفسي بأن أكون هكذا؟ الناس يرونني قوية، يعتمدون عليّ، وإذا أظهرت ضعفي… ماذا سيقولون؟”
نظرت إليها بعينين مليئتين بالحنان وقلت: “يا ابنتي، القوة الحقيقية ليست في التظاهر بالكمال أو حمل كل شيء وحدك. القوة الحقيقية هي في الاعتراف بأنك بشر، أنك تحتاجين للمساعدة أحيانًا، وأنك قادرة على تجاوز الصعاب لأنك تعرفين متى تطلبين الدعم ومتى تستريحين. لا أحد يتوقع منك أن تكوني دائمًا قوية.”
تابعت: “الحياة ليست مسابقة لنرى من هو الأقوى أو الأكثر تحملاً. إنها رحلة مليئة بالتحديات، وما يجعلنا أقوى فعلاً هو قدرتنا على التعلم من تلك التحديات، على السماح لأنفسنا بالشعور بكل ما نمر به دون إخفائه.”
ابتسمت بحزن وقالت: “لكن ماذا عن صديقتي؟ كنا نتحدث طوال الوقت، وفجأة أصبحت باردة، لا تتواصل معي كما كانت من قبل. أشعر وكأنني فقدتها، ولا أفهم السبب. هل فعلت شيئًا خاطئًا؟”
هززت رأسي بلطف: “قد لا يكون الأمر متعلقًا بك على الإطلاق. أحيانًا يمر الناس بمشاكل داخلية تجعلهم يبتعدون عن الآخرين دون أن يقصدوا إيذاء أحد. ربما هي تمر بشيء ما، ولم تستطع التعبير عنه. ولكن، بدلاً من لوم نفسك أو الشعور بأنك فقدتها، حاولي أن تتحدثي معها بصراحة. افتحي قلبك واسأليها إذا كان هناك ما يزعجها، وكوني مستعدة للاستماع.”
نظرت بعيدًا للحظة، وكأنها تفكر في كلماتي، ثم قالت: “أخاف أن أسمع شيئًا لا أريد سماعه. أخاف أن أكون السبب في هذا الابتعاد.”
قلت لها بصوت مطمئن: “الخوف طبيعي، لكن الصمت سيزيد من هذا الخوف ويزيد من المسافة بينكما. إن كانت علاقتكما قوية كما تصفين، فالصراحة والحوار يمكن أن يعيدا التواصل. وإذا كان هناك سبب، فستتعلمان من هذه التجربة معًا.”
صمتت لفترة طويلة، ثم قالت: “أشعر أحيانًا بأنني لست كافية، لست قوية بما فيه الكفاية، لست جيدة بما يكفي لأكون الشخص الذي يتوقعه الجميع.”
تنهدت قليلاً وقلت: “ما تشعرين به ليس غريبًا، الكثير من الناس يشعرون بأنهم ليسوا كافيين. ولكن تذكري أن قيمتك لا تتعلق بما تفعليه أو بما يراه الآخرون. قيمتك تأتي من ذاتك، من كونك الشخص الذي أنت عليه الآن، بكل عيوبك ومميزاتك. أن تكوني كافية ليس شيئًا تقيسينه برأي الآخرين، بل هو شعور ينبع من داخلك عندما تتقبلين نفسك كما أنتِ.”
نظرت لي نظرة مليئة بالدموع مرة أخرى، ولكن هذه المرة كانت دموعًا مختلفة، دموع من الراحة وربما من بداية التسامح مع الذات. قلت لها برفق: “أن تكوني نفسك هو أعظم هدية يمكنك أن تقدميها للعالم، ولا أحد يمكنه أن يأخذ ذلك منك.”
أخذت نفسًا عميقًا وقالت: “أريد أن أتعلم كيف أكون هكذا. كيف أكون مرتاحة مع نفسي ومع العالم من حولي.”
ابتسمت وقلت لها: “هذه الرحلة تبدأ بالوعي، تمامًا كما تفعلين الآن. كلما أدركتِ أن مشاعرك حقيقية وأنها جزء من تجربتك الإنسانية، كلما بدأتِ في التعلم والنمو. لا تتوقعي أن تفعلي كل شيء في يوم واحد، ولكن خذي كل يوم خطوة جديدة نحو التصالح مع ذاتك. لا تترددي في التحدث معي أو مع من يحبونك عندما تشعرين بالحاجة إلى ذلك.”
ثم احتضنتها برفق، وقلت: “أنا هنا دائمًا من أجلك. تذكري ذلك.”
ابتسمت في النهاية، وبدت وكأنها بدأت تجد في داخله بعض السلام. “شكراً لك يا أبي، أنا بحاجة لهذا الحديث.”
همست لها: “ستجدين الطريق، وأنا سأكون بجانبك في كل خطوة.”
بعد أن احتضنتها برفق، شعرت أن هناك تحولًا خفيفًا في الجو، وكأنها أفرغت بعضًا من تلك الأثقال التي كانت تحاصر قلبها. جلست لبضع لحظات أخرى بجانبي، في هدوء يملؤه الأمان والسكينة. كان ذلك الصمت المشترك بيننا يحمل في طياته الفهم والراحة.
رفعت رأسها أخيرًا، بعينين أقل غرقًا في الدموع وأكثر إشراقًا بالأمل، وقالت: “أشعر الآن أنني يمكنني المضي قدمًا، على الأقل بخطوات صغيرة. ربما لن أتمكن من حل كل شيء في الحال، لكنني لن أكون وحدي.”
ابتسمتُ لها بحنان وأجبت: “الخطوات الصغيرة هي البداية، وهي الأهم. كل خطوة تقودك نحو السلام الداخلي الذي تستحقينه. وتذكري أن القوة ليست في أن لا نشعر بالحزن أو الخوف، بل في أن نواجه تلك المشاعر ونعرف كيف ننهض بعدها.”
وقفت ببطء، ومسحت آخر دمعة متبقية على خدها. نظرت إليّ مرة أخيرة، وكأنها وجدت في كلماتي الأمان الذي كانت تحتاجه، ثم قالت: “سأبدأ من اليوم بمحاولة أن أكون أكثر صدقًا مع نفسي. وسأعلم أن لدي من يدعمني مهما كان الأمر.”
ابتسمت لها وأنا أراقبها وهي تسير بعيدًا نحو البيت، بخطوات هادئة وواثقة. كانت تلك اللحظة بالنسبة لي كوالد، درسًا جديدًا في الحب والاحتواء. أدركت أنه ليس علينا أن نقدم حلولًا سحرية أو نصائح معقدة، بل يكفي أن نكون هناك، أن نصغي، وأن نمنح من نحب الأمان ليكونوا على طبيعتهم.
وفي قلبي، شعرت بالطمأنينة، لأنني علمت أن الرحلة التي بدأت فيها، حتى وإن كانت مليئة بالتحديات، ستجد طريقها إلى النور مع الوقت، ومع الحب الذي يمنحها القوة للمضي قدمًا.
تعليقات
إرسال تعليق