الم يأن الأوان
أغمضت عيني وسرحت في أعماق نفسي، وتساءلت: ألم يأن الأوان أن ننتهي من هذا كله؟. شعرت بثقل السنين الماضية، بتلك المعارك التي خضتها دون أن أدرك لماذا بدأت بعضها أو ما الذي كنت أسعى لتحقيقه. كم مرة حاولت الوصول إلى تلك النقطة المثالية، ذلك الشعور بالإنجاز الكامل، ولكنه دائمًا ما بدا بعيدًا مثل سراب في صحراء لا نهاية لها.
ألم يأن الأوان؟ توقفت لحظة عند هذا السؤال، وكأنه يصرخ في أعماقي. هل ما زلت بحاجة إلى هذه المعارك؟ هل حقًا يجب أن أستمر في مطاردة تلك الأهداف التي تبدو وكأنها تزداد تعقيدًا كلما اقتربت منها؟
فجأة، أدركت أن النهاية التي كنت أبحث عنها قد لا تكون في الوصول إلى الهدف نفسه، بل في التخلي عن الحاجة للوصول. أن أضع حدًا لذلك السباق الذي يبدو بلا نهاية. ألم يأن الأوان أن أستسلم؟ ولكن ليس الاستسلام بمعنى الفشل، بل الاستسلام بمعنى القبول. القبول بأنني قد لا أحتاج إلى كل هذه الأهداف الكبيرة لتشعرني بالاكتمال. ربما الاكتمال ليس في الوصول، بل في الوجود ذاته.
وأنا في تلك اللحظة، استحضرت كل الأوقات التي شعرت فيها أنني عالق في دوامة لا تنتهي، تلك اللحظات التي كانت مليئة بالقلق والتوتر. لماذا؟ لأنني كنت أعتقد أن السعادة تكمن في مكان بعيد عني، وأنه يجب عليَّ أن أسير مسافات طويلة لأصل إليها. لكن الحقيقة التي بدأت تتجلى بوضوح هي أن السعادة كانت دائمًا هنا، قريبة، تنتظر مني فقط أن ألتفت إليها.
ألم يأن الأوان أن أهدأ؟ أن أعيش دون أن أحمل نفسي عبء التوقعات والآمال الكبيرة التي أحيانًا تتجاوز طاقتي؟ نعم، الحياة مليئة بالتحديات، ولن تكون دائمًا سهلة، لكن ربما الحل يكمن في تغيير نظرتي إليها. ربما الحياة ليست عن تحقيق أهداف كبيرة أو انتصارات ضخمة، بل عن تلك اللحظات البسيطة التي نغفل عنها وسط الصخب.
في تلك اللحظة، أدركت أن الوقت قد حان لأعانق السلام الذي كنت أبحث عنه خارج نفسي، ولكن هذه المرة سأجده في داخلي. ربما يجب أن ننتهي من مطاردة الأشياء الكبيرة ونبدأ في تقدير الأشياء الصغيرة. ألم يأن الأوان أن نكتفي بما لدينا؟ أن ندرك أننا كافون كما نحن، وأن الحياة لا تحتاج دائمًا إلى أن تكون صراعًا.
فتحت عيني، وقد شعرت بهدوء جديد يملأني. نعم، قد حان الأوان. حان الوقت لأتوقف عن القلق بشأن المستقبل أو التفكير في الماضي. حان الوقت لأعيش الحاضر بكل تفاصيله، وأسمح لنفسي بأن أكون حاضراً بشكل كامل، هنا والآن.
فتحت عيني ببطء، وكنت أشعر وكأنني أرى الأشياء بوضوح للمرة الأولى منذ فترة طويلة. لم يكن العالم قد تغير، لكنني شعرت أنني أنا من تغير. أدركت أنني لست بحاجة إلى الهروب أو الصراع المستمر لتحقيق أي شيء. ألم يأن الأوان أن أعيش ببساطة؟
بدأت أتنفس بعمق، وكنت أشعر بثقل يزول من على كتفيّ. كأن كل تلك الأثقال التي كنت أحملها من ضغوط وتوقعات كانت مجرد وهم صنعته بنفسي، وتستمر معي فقط لأنني سمحت لها بالبقاء. نعم، يمكنني أن أختار أن أضع حدًا لهذا الصراع. ليس كل ما في الحياة يتطلب معركة أو مجهودًا هائلًا. بعض الأشياء تحدث بطبيعتها إذا سمحنا لها بذلك.
بينما كنت أفكر في هذا كله، تساءلت: لماذا كنت دائمًا أشعر أنني في سباق مع الزمن؟ كأنني أخشى أن يفوتني شيء، أو أنني بحاجة لإثبات شيء ما للعالم. ولكن الآن أدركت أنني لا أحتاج لإثبات شيء لأي شخص، ولا حتى لنفسي. الحياة ليست اختبارًا. إنها تجربة، مليئة باللحظات التي نعيشها، بكل تفاصيلها، كبيرة كانت أم صغيرة.
وماذا إذا لم أحقق كل ما خططت له؟ هل سيتوقف العالم؟ هل ستفقد حياتي معناها؟ لا، الحقيقة هي أنني قد أجد المعنى في أمور لم أخطط لها أصلاً. قد يكون الفرح والرضا في الأشياء البسيطة التي أهملتها لأنني كنت مشغولًا بالسعي وراء الأهداف الكبيرة. قد تكون السعادة في كوب قهوة في الصباح، في محادثة عفوية مع صديق، أو في لحظة هدوء مع نفسي.
أدركت أنني قضيت وقتًا طويلًا في القلق بشأن المستقبل، متجاهلًا الحاضر الذي يمر من بين يدي دون أن أشعر به. ألم يأن الأوان أن أعيش الآن؟ أن أتوقف عن الانتظار، وأتوقف عن تأجيل سعادتي حتى “أحقق” شيئًا ما. لأن السعادة ليست جائزة تأتي بعد إنجاز معين؛ هي حالة يمكنني أن أختارها في أي لحظة.
بدأت ألاحظ ما حولي: ضوء الشمس الخفيف يتسلل عبر النافذة، صوت العصافير البعيدة، الهواء المنعش الذي يلامس وجهي. كنت هناك، موجودًا، مستمتعًا بكل لحظة دون أن أفكر في الخطوة التالية أو في ما عليَّ إنجازه بعد.
ألم يأن الأوان أن أترك الأمور تأخذ مجراها؟ أن أثق بأن الحياة تعرف طريقها، وأنني مهما حاولت التحكم بكل شيء، هناك دائمًا جزء منها لا يمكنني السيطرة عليه. ربما هذا هو الجمال الحقيقي للحياة: أن تكون غير متوقعة، مليئة بالمفاجآت والفرص التي قد لا تراها إذا كنت مشغولًا بالتحكم في كل تفصيلة.
قررت في تلك اللحظة أنني سأبدأ بتبني نهج جديد: نهج القبول والتدفق مع الحياة. سأترك الأمور تحدث بطريقتها، وسأقبل بما يأتي في طريقي، سواء كان جيدًا أو سيئًا. سأثق أن كل تجربة، سواء كانت تحديًا أو نجاحًا، هي جزء من الرحلة التي ستقودني في النهاية إلى المكان الذي يفترض أن أكون فيه.
وربما، في النهاية، الهدوء الحقيقي لا يأتي عندما نصل إلى وجهة معينة، بل عندما نتعلم كيف نعيش كل لحظة بوعي، دون أن نحمل أعباء الماضي أو قلق المستقبل.
نعم، قد حان الأوان.
تعليقات
إرسال تعليق