للشتاء صباحات لا تشبه غيرها، صباحات مليئة بحنين شفيف لأشخاص رحلوا تاركين بصمتهم في القلب، بأحاديث كانت تضج بالدفء، ضاع منها الوقت لكن بقيت لنا ذكراها. صباحات يحتضنها المطر كصديق حميم، ويمتزج فيها كل شيء؛ أكواب القهوة، نبض الذكريات، والموسيقى الهادئة.


أجلس مسترخية على مقعدي، أراقب الأزهار أمامي، تتفتح بكل هدوء لتستقبل حبات المطر التي تتساقط كهمسات حب، تلامسها برفق وتنساب فوقها كأنها تغازلها. أشعر أن هذه اللحظات، الصغيرة والبسيطة، تخبئ سحرًا خاصًا؛ وكأن الأزهار تعلم تمامًا كيف تراقص المطر بصمت دون حاجة إلى كلمات.


أحمل كوب القهوة وأرتشف منه ببطء، لأجد في طعمه دفء يمتزج بنكهة الحنين. وهنا، في عمق هذا الهدوء، تعود الذكريات لتنسج قصصًا، قصصًا عن وجوه وأوقات كانت تملأ القلب حياةً وسلامًا. أما الموسيقى الهادئة، فهي ترافقني كخلفية ناعمة، تضفي على اللحظة معنى أعمق، وتذكرني أن لكل منا صباحات شتاء تحمل أسرارًا من نوع خاص، حكايات مخبأة، حلوة أو حزينة، لكنها دائمًا تحمل شيئًا من أرواحنا.

في هذا الجو البارد المليء بالسكينة، يبدو أن الوقت يتباطأ، وكأن الشتاء يريد أن يترك لنا مساحة للتأمل، للتصالح مع أنفسنا ومع ذكرياتنا. صوت المطر بالخارج ينساب كإيقاع ناعم، يشاركنا الجلسة، يحكي بلغته التي لا يفهمها إلا القلب، لغة لا تحتاج إلى ترجمة، يكفي أن نصغي إليها.


أجد نفسي أستمتع بلمسات الطبيعة حولي، بألوان الأزهار وهي تتزين بقطرات المطر، بأوراق الشجر الندية التي تتألق تحت الضوء الخافت. أتساءل كيف لهذه التفاصيل الصغيرة أن تجلب لي كل هذا السلام؟ وكيف يمكن لصباح شتائي أن يكون محملاً بهذا الكم من المشاعر، وكأنه يهمس لي أن أتمهل، أن أتذوق كل لحظة.


أغرق أكثر في التأمل، وأشعر أن هذا الصباح هو دعوة لطيفة من الحياة، لتذكر الأشياء الجميلة التي نعيشها، والتي قد نمر عليها مرور الكرام في زحمة الأيام. إنه دعوة للعودة إلى الذات، إلى ذلك الركن الهادئ في داخلنا الذي يطمئننا بأن كل شيء سيمر، وأن اللحظات الصغيرة، كقطرات المطر المتناثرة، قد تكون أحيانًا هي ما يمنح الحياة كل معانيها.


أبتسم بيني وبين نفسي، وأنا على يقين أن هذه الصباحات، وهذا الشغف الصامت بالأشياء البسيطة، هو ما يربطنا بالأمان، ويعيدنا دائمًا إلى سلامنا الداخلي.

وما أجمل هذا السلام الداخلي حينما يتسرب إلى أعماقنا، يلفنا كغطاء دافئ، فنشعر كأننا جزء من هذا الكون الرحب، جزء من المطر الذي ينساب برقة، من الهواء الذي يلفح وجوهنا، ومن كل ذرة تتنفس في هذا الصباح.


في هذه اللحظات، أتذكر كيف علمتني الحياة أن أقدر التفاصيل، أن أعانق كل شعور، وأعيش كل لحظة بعمق. أدركت أن السعادة الحقيقية لا تأتي من الأحداث الكبيرة فحسب، بل تتجلى في هذه اللحظات الصغيرة، في كوب قهوة يشع دفئًا بين يدي، في نظرة إلى الأزهار التي تتألق بقطرات المطر، وفي لحن موسيقى ينساب بخفة، يحملني بين ذكريات الماضي وأحلام المستقبل.


أغلق عيني لوهلة، وأترك نفسي تنساق مع المشهد، مع حكايات الشتاء التي ترويها الطبيعة من حولي. أستشعر وجودي بكل كياني، بكل نبضة قلب، وأدرك أن هذه اللحظات الهادئة هي أعمق حواراتنا مع الحياة، هي لحظات يخفت فيها صوت العالم، ويعلو فيها صوت الروح.


أفتح عيني مجددًا، وأبتسم لهذه اللحظات، للحياة التي تحتضنني بكل تناقضاتها، وللشتاء الذي يأتي ليذكرني أنني جزء من هذه الحكاية العظيمة. ففي كل قطرة مطر تتساقط، وفي كل زهرة تتفتح، أجد رسالة خفية، همسة تدعوني لأعيش ببساطة، وأن أكون ممتنة لكل لحظة، لأن في كل صباح شتوي جديد، تشرق حكاية مختلفة تنتظر من يرويها.

تعليقات

مرآة الأسرار: رحلة نحو النور

مرآة الأسرار: رحلة نحو النور

لا تخافي يا بنتي