البستاني والعطاء اللامحدود


كان البستاني يعشق حدائقه، يراها ليست مجرد نباتات، بل كائنات حية تعكس اهتمامه وحبه. احتواها بين يديه، مثلما يحتوي الأب طفله بين ذراعيه، رآها تكبر وتنمو، ولم يتردد يومًا في تقديم كل ما يلزم لرعايتها. بيديه الحانيتين، سقاها بماءه النقي، وروى كل جزء منها حتى تغلغلت الحياة في جذورها. لم يكن سقياها مجرد فعل يومي، بل كان أشبه بمراسم حب وإخلاص، حيث كانت كل قطرة ماء تنبض بالحياة والحب.


أغرقها بعطاءه، لم يترك جزءًا منها إلا ووصله بماءه العذب. شملت العناية كل زاوية من زواياها: الجذور، الأوراق، الأغصان وحتى البراعم الصغيرة التي كانت تنتظر بشوق لمسة من ماءه. لم يكن الري فقط ضرورة للنمو، بل كان استجابة عميقة لعطش الكيان، وكأن البستاني كان يعلم أن العطاء الحقيقي لا ينتهي عند حد معين، بل يستمر حتى تفيض الحياة في كل ما يلمسه.


مع كل رشة ماء، كانت الزهرة تنتشي؛

لم يكن العطاء من البستاني مجرد فعل مادي، بل كان تجسيدًا لعلاقة أعمق بينه وبين تلك الزهرة التي رعاها بحب. كان يدرك تمامًا أن الماء الذي يقدمه ليس مجرد وسيلة للنمو، بل هو الحياة ذاتها، هو الرابط الذي يربط بين روحه وروح تلك النبتة. كانت كل رشة ماء تعبر عن إيمانه بأن الرعاية ليست فقط لتلبية احتياجات الزهرة، بل لتزهر وتعطي أفضل ما لديها.


مع مرور الوقت، أدركت الزهرة أن البستاني لم يروِها بالماء فقط، بل كان يرويها بحبه واهتمامه، بتفانيه في الاعتناء بها دون كلل أو ملل. شعرت وكأنها محظوظة بهذا العطاء المتواصل، الذي لم يكن ينتظر منها شيئًا في المقابل. كانت راضية وممتنة، تفتح أوراقها وأغصانها لاستقبال كل قطرة جديدة من عناية البستاني، كأنها تعرف أن كل لحظة من هذا الاهتمام ستجعلها أقوى وأكثر جمالاً.


وفي تلك اللحظات العذبة التي كانت تعيشها الزهرة، كانت تشعر بتلك الرعشة الخفيفة في كل وريقة وبراعمها الصغيرة. كانت تتمنى أن تستمر تلك اللحظات إلى الأبد، أن يحتفظ البستاني بكل قطرة ماء داخلها، وكأنها لا تريد أن تفقد شيئًا من هذا العطاء الغامر.


رأت في البستاني ليس فقط من يسقيها، بل من يحتضنها برفق، من يفهم احتياجاتها دون أن تنطق. كانت تعلم أن جذورها مغروسة في التربة، لكنها كانت تتطلع دائمًا إلى لمسة البستاني، إلى تلك القطرات التي ترويها، فكانت تكبر وتتفتح بجمال وسخاء.


ومع كل يوم جديد، كانت الزهرة تنمو، تزهر، وتنتج ألوانًا أكثر إشراقًا بفضل البستاني الذي لم يتوقف عن رعايتها. كانت الزهرة ترى في كل صباح جديد فرصة لإعادة تجربة ذلك الشعور العميق بالعطاء، وتجدد رغبتها في أن تبقى في حالة من الشبع الدائم، تلك الحالة التي لا تتحقق إلا بفضل البستاني.


وفي النهاية، أدركت الزهرة أن العلاقة بينها وبين البستاني ليست مجرد علاقة بين كائن يحتاج إلى الرعاية وآخر يقدمها، بل كانت رمزًا للتكامل والتفاعل بين العطاء والتقدير. كانت الزهرة تحتفظ بماءه في كل زاوية من زواياها، لا لأنها تحتاجه للبقاء فقط، بل لأنها ترغب في الاحتفاظ بذكرى تلك العناية الدائمة، وتبقى متفتحة للأبد، تعبيرًا عن شكرها وامتنانها.

تعليقات

مرآة الأسرار: رحلة نحو النور

مرآة الأسرار: رحلة نحو النور

لا تخافي يا بنتي