**ابتسامة القدر**


جلست مسترخية على أريكتي، أحتسي كوباً من الشاي، وحولي أحفادي يلعبونبسعادةتركت لخيالي العنان ليرتحل بي إلى الماضي البعيد؛ إلى أيام طفولتي،عندما كنت في مثل أعمارهم، ألعب وأمرح في حديقة منزلنا، وأسمع صوت والدييغني أغنيته المعتادة.


**أبي... كم كنت أطرب لصوته!** كنت أركض نحوه بكل ما أملك من طاقة، أرتطمبحضنه، وأتعلق بأكتافه، رافضة النزولكان يحملني بسعادة حتى نصل إلىالمنزل، وهناك، كانت أمي تصرخ في وجهه: "إنك سوف تفسد هذه البنت بكثرةدلالها!" لكنه كان يجيبها مبتسماً: "ما دام هذا الرأس حياً، سأظل أحملها وأحملأطفالها من بعدها."


لكن... **هذا الرأس رحل،** ليحل محله عمي.


**أبي، لماذا رحلت وتركتني أصارع الأمواج وحدي؟** حبست نفسي في غرفتي،أحادث أبي من خلال نافذتي وأدعو الله أن ينزله من السماء مرة أخرىفي تلكالأيام، لم أكن أعلم أن من يصعد إلى السماء لا يعود أبداً.


استمر هذا الوضع لسنوات عدة، حتى أصبحت فتاة ناضجةجاء اليوم الذيأخبرتني فيه أمي أن عمي يرغب في محادثتي، وأن عليّ أن ألتزم الأدب معهذهبتإليه وأنا أتحاشاه منذ أن أخذ مكان أبي في المنزلكنت أسيرة غرفتي، لا أغادرها إلانادراً. **نظرت إليه لأسمع ماذا يريد،** وحاول أن يكون لطيفاً معي على غير عادتهنظر إلى وجهي قليلاً وكأنه يراني لأول مرة، ثم قال بثقل: "ابنتي، أرى أنك أصبحتعروساً جميلةيا بخت من يتزوجك."


**شعرت أن قلبي سيتوقف من قوة خفقاته.** "نعم يا عمي، أكمل، ماذا تريد أنتقول؟" فأجابني: "لا شيء يا ابنتي، إنما هو عمك صالح، جارنا أبو منصور، جاءلخطبتك."


ازداد خفقان قلبي. **يخطبني؟ لكن أليس ابنه منصور هو من يخطب؟** قهقهعمي وقال: "من جاب سيرة منصور؟ أنا أحدثك عن أبو منصور، ليس منصور."**يخطبني لمن؟** "يخطبك لنفسه، طبعاً."


**عمى، هل أنت جاد في كلامك؟** أبو منصور يخطبني لنفسه؟ **نعم،** إنه رجلمقتدر ويستطيع أن يحقق كل أمانيكلكن يا عمي، إن حفيدته في مثل عمري! **فكم يكون عمره؟** "ما عليكِ بعمره، إن الرجل لا يُقاس هكذا، إنما يُقاس بمايملك."


**لكنني يا عمي لا أريد أن أتزوجه.** زمجر عمي زمجرة أخافت الصوت من حوله:"ماذا تقولين؟ لم أسمعأه، تسألين أين ستسكنين؟ لا، لن يسكنك مع زوجاتهالثلاثة، إنما ستسكنين معنا بالمنزل إلى أن ينتهي منزلك الذي يليق بأحلى عروس."


**نظرت نظرة مذهلة في وجه عمي.** كنت أتمنى أن أكون أحلم، لكن للأسف، لميكن حلماً بل كان واقعاً، وما أقساه من واقع. **عمي، لماذا تريد أن تزوجني إياه؟هل أنا كبرت إلى هذه الدرجة؟ فأنا ما زلت في الرابعة عشر!** 


"يا ابنتي، أنا مثل والدكأتمنى أن أراكِ في منزلك سعيدة مع زوجك." **ها أنتقلت زوجك وليس جدك.** "اخرسياسكتيلا أريد أن أسمع أي اعتراضيومالخميس سيكون يوم عرسك."


**الخميس؟** موعد إعدامي؟ يا إلهي، أنقذنيما الذي يمكنني أن أفعل؟ أصرخ؟أبكي؟ لن أجد نتيجة غير سيل من الضرب والشتائم من عمي وأمي التي كانتتصيح: "هذه آخر دلعها، أصبح لها لسان تتحدث به!" وصفعتني صفعة لمأستيقظ بعدها إلا وأنا على سريري. **كيف حملت إلى هنا؟**


نظرت حولي، فإذا بالطبيب واقفاً فوق رأسي يقول: "الحمد لله على السلامةإنهإرهاق بسيطشدي حيلك." صافحني وشد على يدي، وكأنه يريد أن يعزيني علىمصيري، وخرج دون أن ينظر إليوما أن خرج الطبيب حتى صاحت أمي في وجهيمرة أخرى: "تريدين أن تفضحينا؟ تمرضين، تموتين؟ ما في إلا أبو منصور زوجاًلكِ."


**أغمضت عيني بقوة وتمنيت أن أنام إلى الأبد.** جاء اليوم الموعود، وجاء أبومنصور إلى منزلنا، يتمايل من شدة سمنته، وتقدم نحوي قائلاً: "مبروك عليكِ أبومنصور يا عروسة." **ما هذا الغرور وما هذه الثقة في النفس؟** تبسمت فيوجهه ابتسامة بلا لون ولا طعم، وأرخت عيني إلى الأرض حتى لا أنظر إلى وجههالكريه


ثم قال لأمي: "ما شاء الله، يا أم محمد، عرفتِ تربيوالنعم." ثم ساقني كما يُساقالمعز إلى المسلخومر على زواجي خمسة أعوام، كان ثمرتها ثلاثة أطفال: فتاةوولدين. **وما زلت في منزل أبي.** أين المنزل الذي يليق بي؟ بالطبع، لم أكنأجرؤ أن أسأل هذا السؤال.


وفي ذات مرة، كنت ألاعب أطفالي في حديقة المنزل، وهو المتنفس الوحيد لي،إذا بصرخة مرعبة تأتي من الداخلركضت للنظر، فإذا بأمي تحضنني وتقول:"زوجكِ صالح توفي."


**آه، يا إلهي، أصبحت أرملة وأنا ما زلت دون العشرين!** أي قدر هذا؟ أفقت منالصدمة على صوت المحامي يسأل: "من تريدين توكيله كي يرعى إرثكِ؟" نظرتإلى أمي نظرة توحي بألف معنى ومعنى، وقلت: "لا أدري، دعني أفكر."


وهنا، نطق المحامي: "هذا الاختيار ملك لكِ وحدك، ولك مطلق الحرية في اختيارمن يدير أملاكك." طلبت مهلة، وسرحت بخيالي. **من يمكن أن أأتمنه على إرثي؟** قلت: "لا أحد أفضل منك في إدارة إرثيولكن، أرغب في الحصول على جزء منالميراث لدفع تكاليف مدرسة ابني، وأريد أن أستقل في منزلي أنا وأبنائي."


جاء تصادم آخر بيني وبين عمي عندما طلبت جزءاً من الميراث لدفع تكاليفمدرسة ابني طارق. **صرخ في وجهي:** "ماذا تريدين؟ أن تبدي الثروة؟"أحسست حينها أنه يريد أن يحرمني من ميراث زوجي كما حرمني من ميراث أبيصرخت: "أريد أن أربي ابني بمعرفتي، ولا أريد لأحد أن يتدخل في حياتي مرةأخرى." صاح قائلاً: "إنكِ ما زلتِ صغيرة على ذلك." 


لحظتها صرخت في وجهه: "إذا كنت صغيرة، فلماذا بعتني وقبضت الثمن؟ أريدأن أدخل أبنائي مدارس خاصةأريد أن أستقل بمنزل خاص بيأريد أن أتمتعبالمال الذي أصبح ملكي." 


وفعلاً، انتقلت أنا وأبنائي إلى منزلي الذي بناه لي زوجي أبو منصور. **عكفت علىتربية أبنائي،** وحرصت كل الحرص على أن يكونوا أبناء صالحينعودتهم منذالبداية على إبداء آرائهم في كل شيء، ومناقشتهم في كل الأمورألغيت إصدارالأوامر، فكل طلباتي من أبنائي كانت رجاءعشنا كأُسرة متكاتفة، يحب بعضهابعضاً، حتى كبروا.


**آه، ما أسرعك يا زمن!** وأنت تمضيأحسست بسرعته عندما حضر ابني يخبرنيأن عريساً أتى لخطبة أخته منىنظرت إليه وقلت: "الرأي الأول والأخير لها، وليسلأحد حق تحديد مصيرها." تبسم في وجهي قائلاً: "سمعاً وطاعة."


أتت منى تمشي في حياء، أخبرتها، فتبسمت في استحياء وقالت: "لن أعصي لكمأمراً." **نعم يا ابنتي، الرأي الأول والأخير لكِ، ولا أريد لأخطاء الماضي أن تتكرر.** 


حضنتها وابتسمت، لا، بل ضحكت، والدموع تغطي وجهي. **لكن هذه المرة كانتدموع الفرح.** لن أندم أبداً على صبري، فقد زرعت وحصدت، ونعم ما حصد

أفقت على صوت ابنتي وهي تحيي زوجها، وحفيدي يقول: "جدتي، لقد حضر أبيمن العمل." **نظرت إليهم بابتسامة تعلو وجهي،** شعرت بالرضا والسلامالداخليكانت هذه اللحظة تتويجًا لكل ما مررت به، وما تحملته من صعابوتحديات


أدركت حينها أن القدر، رغم قسوته في البداية، كان يخبئ لي سعادة ورضا لا مثيللهما. **الابتسامة التي بدأت منذ أيام طفولتي، برفقة أبي،** استمرت حتى اليوم،حيث أصبحت أرى أحفادي يكبرون أمام عيني، محاطين بالحب والدعم الذي لمأحظَ به في بداية حياتي.


الآن، وأنا أستعيد تلك الذكريات، أشعر بالفخر بكل ما أنجزته. **لقد كانت حياتيمليئة بالتحديات،** لكنني لم أسمح لها بأن تحطم روحيبل بالعكس، تلكالتحديات جعلتني أقوى، وأعطتني القدرة على خلق حياة أفضل لأبنائي وأحفادي.


**ابتسامة القدر،** تلك التي كانت تلاحقني في أصعب لحظات حياتي، تحولتاليوم إلى ضحكة عميقة، مليئة بالحب والامتنان. **لم يكن الأمر سهلًا،** لكننيتعلمت كيف أواجه الصعاب، وكيف أجد السعادة في أبسط الأشياء


**الآن، وأنا أرى عائلتي مجتمعين حولي،** أدرك أن كل خطوة خطوتها كانتتستحق العناء. **الحياة، رغم كل شيء، مليئة بالفرص والابتسامات،** وما علينا إلاأن نستغلها ونحولها إلى لحظات لا تُنسى. **لقد حصدت ثمار صبري، وها أناأعيش في سلام وطمأنينة،** محاطة بمن أحب، وقلب مليء بالرضا والفرح.


هكذا، تستمر الحياة، **تمنحنا الألم وتعلمنا القوة،** تضع أمامنا التحدياتلتجعلنا أقوى، وفي النهاية، تمنحنا فرصة لنبتسم من القلب، ونقول بكل صدق:**"لقد عشت حياتي كما يجب، وزرعت الخير وحصدت السعادة."**

تعليقات

مرآة الأسرار: رحلة نحو النور

مرآة الأسرار: رحلة نحو النور

لا تخافي يا بنتي