خلوة عند شاطئ البحر

 جلستُ على شاطئ البحر، مستمتعة بصوت الأمواج التي تتكسر بلطف على الرمال، بينما كان القمر يضيء السماء المظلمة بنوره الفضي. شعرتُ بأنني أمام صديق قديم، واحد لطالما كان شاهدًا على كل لحظات حياتي، الحلوة منها والمرة. رفعتُ بصري إليه وبدأت أحادثه كمن يحادث رفيقًا روحيًا.


قلت له: “يا قمر، كم مرة رأيتني هنا؟ كم مرة شاركتني هذه الوحدة والصمت؟”


رد بنوره الخافت، وكأنه يهمس لي: “كثيرًا، يا صديقتي. كنتُ دائمًا هنا، أراكِ في لحظات التأمل والحيرة، وفي الأوقات التي بحثتِ فيها عن إجابات.”


ابتسمتُ وقلت: “أشعر أنني مثلك في كثير من الأحيان، أضيء للآخرين في الظلام، لكنني أحيانًا أحتاج إلى من ينير لي طريقي. أخبرني، كيف تبقى مضيئًا دائمًا، رغم أن الليل يحاول إخفاءك؟”


رد القمر بهدوء: “يا صديقتي، لستُ مضيئًا بذاتي. إنما أعكس نور الشمس، حتى عندما لا تكونين قادرة على رؤيتها. أنتِ أيضًا، لديكِ نور داخلي ينعكس على كل من حولكِ، حتى في الأوقات التي تشعرين فيها بأنكِ في الظلام. يكفي أن تتذكري ذلك.”


نظرتُ إلى الأمواج وهي تتماوج بلطف، وقلت: “أحيانًا أشعر أنني مثل هذه الأمواج، أذهب وأعود، وأحيانًا أكون هادئة وأحيانًا مضطربة. كيف يمكنني الحفاظ على هذا السلام بداخلي وسط هذه التحركات المستمرة؟”


أجاب القمر: “مثل البحر، تحتاجين إلى قبول التغييرات. ليس من الطبيعي أن تكون الحياة دائمًا هادئة، ولكن في كل مد وجزر، هناك درس وسبب. أنتِ أقوى مما تتصورين، حتى عندما تشعرين بأنكِ تتلاطمين مع الحياة.”


ابتسمتُ مجددًا وقلت: “أعلم أنك على حق. أحيانًا أنسى ذلك. أريد فقط أن أكون متوازنة، مثلما تظل أنت في مكانك رغم كل شيء.”


أضاء القمر أكثر، وقال: “التوازن لا يعني أن تكوني ثابتة دائمًا. إنه يعني أن تكوني قادرة على التكيف مع التحولات، مثلما أظل هنا، رغم تغير الليل والنهار. تذكري دائمًا، أنتِ جزء من هذا الكون، وكل شيء فيه يتغير ويتطور، وهذا جزء من جمال الحياة.”


نظرتُ إليه نظرة امتنان، وقلت بهدوء: “شكرًا لك، أيها القمر. حديثك دائمًا يهدئني ويعيد لي السلام.”


واستمر القمر في إنارتي، بينما عدتُ إلى تأملي، وأنا أشعر بالسكينة تسكن قلبي، متذكرة أن النور دائمًا موجود، حتى في أحلك اللحظات.


جلستُ على الشاطئ، مستندة على الرمال الناعمة، وأنظر إلى القمر الذي تزين به السماء، وكأن هناك سحرًا خفيًا يجذبني إليه، يجذبني إلى هدوئه وصموده وسط هذا الظلام الدامس. شعرتُ وكأنه مرآة لروحي، يعكس لي صراعاتي الداخلية، لكن في الوقت نفسه يعطيني شعورًا بالطمأنينة والسكينة.


رفعتُ صوتي قليلاً وكأنني أحادثه عن قرب، وقلت له: “يا قمر، كيف يمكنك أن تبقى هادئًا هكذا؟ كيف تصمد رغم هذا الظلام المحيط بك؟”


رد عليّ بنوره الذي امتد عبر البحر كخط فضي: “أبقى هادئًا لأنني أعلم أنني جزء من دورة أكبر، دورة لا تنتهي، فيها ليل ونهار، نور وظلام. لا شيء يبقى على حاله، وكل شيء يتغير. الظلام الذي ترينه حولي مؤقت، وكذلك النور. كل شيء يأتي ويرحل، لذلك أتعلم التعايش مع التغيرات بدلاً من مقاومتها.”


تأملت كلماته، وأدركت أن الحياة تشبه هذا النور والظلام المتعاقبين. هناك لحظات من الفرح والحيوية، ولكن هناك أيضًا لحظات من الألم والضياع. لكن القمر يظل هادئًا، متقبلاً لتلك الدورات دون مقاومة، وقلت له: “أحيانًا، يا قمر، أجد صعوبة في تقبل التغيير. أشعر بأنني أريد أن أتمسك باللحظات الجميلة، وأقاوم الألم بكل ما أملك.”


أجابني القمر بلطف: “إن التمسك هو ما يسبب لكِ الألم. الحياة بطبيعتها متغيرة، ولا يمكنكِ إيقاف تدفق الزمن أو الأحداث. ولكن إذا تعلمتِ أن تتقبلي كل مرحلة، ستجدين السلام في كل لحظة، سواء كانت مليئة بالنور أو بالظلام.”


تأملت كلامه، ثم قلت: “ربما أنت على حق. نحن نقضي الكثير من الوقت نحاول التحكم بكل شيء، بينما لو تعلمنا أن نسترخي ونسير مع التيار، قد نجد أن الحياة أسهل وأكثر هدوءًا.”


ابتسمتُ قليلاً وأنا أنظر إلى الأمواج الهادئة التي تنعكس عليها أضواء القمر، وقلت: “لكن ماذا عن الأحلام، يا قمر؟ ماذا عن تلك الأحلام التي نرسمها وننتظر تحقيقها بفارغ الصبر؟ أحيانًا أشعر بأنني أحلم كثيرًا، ولكن لا شيء يتحقق كما أردت. كيف أوازن بين التطلع للأمام وبين تقبل الحاضر؟”


صمت القمر لبرهة، ثم قال: “الأحلام جميلة، ولكنها ليست الهدف النهائي. هي إشارات توجهك في رحلتك، ولكن لا تجعليها تتحكم بك. إذا كنتِ دائمًا تركزين على المستقبل، ستفوتك اللحظة الحالية بكل ما فيها من جمال ودروس. الأحلام مثل النجوم البعيدة، ترشدكِ في الظلام، ولكن عليكِ أن تتذكري أن الرحلة بحد ذاتها هي ما يهم.”


هزتني كلماته. أدركت أنني كنت أسعى دائمًا للوصول إلى مكان ما، إلى هدف ما، وكأنني أنسى أن أعيش اللحظة التي أنا فيها الآن. قلت له: “أنت تعلم، يا قمر، أنني أحيانًا أشعر بأنني في سباق مع الزمن. هناك الكثير من الأشياء التي أريد تحقيقها، والوقت يبدو دائمًا غير كافٍ.”


أجابني القمر بحكمة: “الوقت لا يطاردكِ، بل أنتِ من تطاردين الوقت. دعي الأمور تسير بطبيعتها. كل شيء سيأتي في أوانه. السر في السعادة هو أن تعيشي اللحظة وتثقي بأن كل ما هو مقدر لكِ سيحدث في الوقت المناسب.”


ابتسمتُ وأنا أشعر بثقلٍ يزول عن صدري، وكأن حديث القمر جعلني أتقبل حقيقة أن الأمور لا يجب أن تكون دائمًا تحت سيطرتي. كل شيء سيأتي في وقته المناسب، سواء كان ذلك النجاح أو الحب أو السعادة.


ثم سألت القمر سؤالًا أخيرًا، قلت له: “لكن، ماذا عن الوحدة؟ في بعض الأحيان، يا قمر، أشعر أنني وحيدة، رغم أنني محاطة بأشخاص كثيرين.”


أجاب القمر بحنان: “الوحدة ليست في غياب الناس من حولكِ، بل في غياب الاتصال مع نفسكِ. حين تكونين صديقةً لنفسكِ، لن تشعري بالوحدة مهما كانت الظروف. القرب الحقيقي هو ما يحدث بينكِ وبين قلبكِ، حين تجدين السلام والراحة بداخلكِ.”


كانت كلماته عميقة وصادقة. أدركتُ أنني ربما كنتُ أبحث عن الطمأنينة في الخارج، في الناس أو الإنجازات، بينما كانت الطمأنينة تنتظرني في الداخل، في نفسي.


نظرتُ إليه مجددًا، وقلت: “شكرًا لك، أيها القمر. كنتَ دائمًا هنا، تراقبني بصمت، ولكنني اليوم أشعر بأنني فهمتُ جزءًا من حكمتك.”


اختفى نوره تدريجيًا وراء الغيوم، وكأنه يقول لي وداعًا، ولكنني شعرتُ بأن رسالته ستبقى معي. النور والظلام جزءٌ من دورة الحياة، والتغيير لا يمكن مقاومته، بل يجب تقبله، وأن كل لحظة في الحياة، سواء كانت مليئة بالفرح أو بالتحديات، تحمل في طياتها درسًا ومعنى.


جلستُ هناك لفترة أطول، مستمتعة بالسلام الداخلي الذي شعرتُ به، معاهدةً نفسي أن أكون أكثر تقبلًا لكل ما تقدمه لي الحياة، وأن أستمر في رحلتي بثقة، مسترشدةً بنور القمر الذي يضيء لي الطريق حتى في أحلك الليالي.


وأنا جالسة هناك، مستمتعةً بصوت الأمواج ورائحة البحر العذبة، شعرتُ أنني أصبحت أكثر تناغمًا مع الكون. القمر الذي كان دائمًا فوقي، يراقبني بصمت، أصبح الآن صديقًا يهمس لي بالحكمة والطمأنينة. أدركتُ أن النور موجود دائمًا، حتى لو حجبه الظلام لبعض الوقت.


نهضتُ أخيرًا، وبخطوات هادئة، تركتُ الشاطئ، لكنني حملت معي ذلك الحديث العميق. ربما لا يمكنني التحكم في مسار الحياة، ولكنني أستطيع أن أعيش كل لحظة بسلام وثقة. ومع كل ليلة مقبلة، سأعود إلى القمر، ليسألني عما تعلمته في رحلتي، وأنا سأجيبه بابتسامة، مستعدةً لمواجهة الحياة بروح جديدة.

تعليقات

مرآة الأسرار: رحلة نحو النور

مرآة الأسرار: رحلة نحو النور

لا تخافي يا بنتي